حنين لا يُبرمج

الصور التي شكّلت وجداننا كجيل تختلف، بطبيعة الحال، عن تلك التي تُكوّن وجدان أبنائنا اليوم؛ وُلدتُ في حيّ يلفّه النخيل، وبرك الماء، وظلال البيوت الشعبية، وأزقة ضيقة، وألعاب لم تعد موجودة الآن. وتتنقل ابنتي الصغيرة اليوم بين برامجها على جهاز الآيباد، تستمتع بعالمها الخاص، المختلف شكلاً ومضمونًا. نعم، تخرج ابنتي للنزهة مع أقرانها، لكن الأكيد أن لهم صورهم الخاصة التي تُشكّل وجدانهم، وقد يكون هذا من طبيعة الحياة: أن تمضي إلى الأمام، وتتجدد وسائل الراحة، وتتحسن جودة الحياة، حتى وإن أفرزت هذه الحداثة شيئًا من الارتخاء، وولّدت قلقًا خفيًا بفعل كثافة الوسائط الرقمية التي باتت تحاصرنا، وتُعيد تشكيل تفاصيل عيشنا اليومية. حتى في عالم الكتابة، نعيش اليوم تحدّي الحفاظ على الصوت الإنساني في ظل انتشار النصوص المؤتمتة؛ وهي تلك التي تُنتج تلقائيًا عبر برامج الذكاء الاصطناعي أو خوارزميات حاسوبية، دون تدخل بشري مباشر، بل بناءً على بيانات وتعليمات مبرمجة. ورغم ذلك، ستظل الكتابة هي الملاذ الآمن والحنين الذي لا يُبرمج. وربما يحتاج الكاتب المعاصر إلى جهد مضاعف في القراءة والتأمل في كتب التراث، ليحافظ على صوته الخاص. وقد عبّر الشاعر محمد بن خليفة أبو شهاب عن العلاقة العميقة بين الكاتب وقلمه، متسائلًا: هل أنت مثلي محب أيها القلم تشدو وتبكي كما أبكي وتبتسم هل للأنامل أم للقلب واسطة أوحت إليك بما قالوا وما نظموا أم أن علمك بالأسرار ينظر م يخفى وتعلم منهم فوق ما علموا يبقى التحدي أمام الكاتب: كيف يحافظ على صوته الذاتي دون الارتهان الكامل لأدوات الذكاء الاصطناعي؟ ولا بأس باستخدامها في حدود معقولة كالتدقيق أو تنظيم الأفكار، لكن الروح الإبداعية يجب أن تظل إنسانية خالصة. ونعود لتلك الصور التي شكّلت وجداننا... فليس ابني وحده من بات مشغولًا بتلك الوسائط، بل معظمنا، كما يقال، “ركب الموجة”. إنها موجة مغرية، رغم ما تنطوي عليه من بعض التحديات. فالذكاء الاصطناعي يوفّر الوقت ويسهّل كثيرًا من المهام، وقد أصبح تطوير أدواته هدفًا عالميًا. ومع ذلك، تُثار اليوم تساؤلات جوهرية حول أخلاقيات استخدامه، وحدود الاستفادة منه. وفي النهاية، يظل الميزان في يد الإنسان: يعرف كيف يزن الأمور، فلا إفراط يُذهب الصدق، ولا تفريط يُعيق التقدّم.