ناقد وروائي وأكاديمي ترأّس معهد العالم العربي في باريس لست سنوات..

معجب الزهراني: الرؤية وضعت الثقافة على خارطة التحوّل… لكن التحديات ما زالت قائمة

يُعد الدكتور معجب الزهراني واحدًا من أبرز الأدباء والمفكرين السعوديين، وقد أثرى المشهد الثقافي بكتاباته النقدية وترجماته وإسهاماته الأكاديمية، وترك بصمته في مجلات ثقافية مرموقة ومؤسسات فكرية داخل المملكة وخارجها، وصولًا إلى إدارته لمعهد العالم العربي في باريس، الذي تولى رئاسته لست سنوات. ولد الزهراني في منطقة الباحة في العام الميلادي 1954، ودرس اللغة العربية في جامعة الملك سعود، قبل أن يحصل على الدكتوراه في الأدب العام والمقارن من جامعة السوربون في باريس. وقد تنقل بين مجالات العمل الأكاديمي، والتحرير الثقافي، والكتابة الإبداعية، فكان عضوًا مؤسسًا أو محررًا في مجلات مثل «دراسات شرقية»، و«قوافل»، و«النص الجديد»، كما ترجم عددًا من النصوص المهمة عن الفرنسية، من أبرزها «اللغة العربية كنز فرنسا« لجاك لانغ. له عدة مؤلفات من بينها رواية «رقص»، وسيرته الذاتية «سيرة الوقت»، وكتاب «مقاربات حوارية»الذي فاز بجائزة كتاب العام من نادي الرياض الأدبي عام 2012، إضافة إلى كتابه «مكتب على السين»، فضلًا عن كتابين أصدرهما بالفرنسية. في هذا الحوار الخاص مع «شرفات»، يتأمل الدكتور معجب تجربته الممتدة بين ضفاف السين ومنحدرات قريته في الباحة، ويتحدث عن الغربة بوصفها تجربة أعادت نحت روحه على مهل، وعن العودة بوصفها راحة مستحقة بعد رحلة طويلة من التعلم والعمل. يرى الزهراني أن الثقافة السعودية تمر بتحول كبير في ظل الرؤية، لكنه يؤكد أن التقاليد القديمة لا تزال تملك مفاتيح التأثير، وأن هناك حاجة دائمة لمراجعة موقع المثقف ودوره. ينشر هذا الحوار ضمن ملف خاص، يتضمن شهادات من أصدقاء وكتّاب، إلى جانب شهادة كُتبت من داخل عائلته، وقّعتها ابنته، لتضيء الجانب الحميمي من حياة رجل عاش في قلب العواصم، وظلّ يحمل داخله دهشة الريف وسكينته: الأجواء الهادئة تليق بالمحطات الأخيرة. *تنقلت بين مجتمعات مختلفة نوعا ما: مجتمع الباحة، مجتمع الرياض، مجتمع جدة، بالإضافة الى باريس لمرتين. بالتأكيد كانت هناك فروق بين هذه المجتمعات. ما تأثير هذه التنقلات عليك وجدانا وإبداعا وفكرا؟ -الوعي هو في بعض تعريفاته إدراك الفروق والاختلافات، وبهدف الفهم أولاً ثم التدخل للتغيير والتطوير تالياً، ولا حكم هنا حين نقول من هذا المنظور إن مجتمعاتنا العربية ومثيلاتها عانت شروط التخلف طوال قرون فيما كانت المجتمعات الغربية تراكم المنجزات الحضارية التي رسمت مصير العالم الحديث كله. ومن يتنكر لمعطيات الواقع وشروط التاريخ سيظل يدور في حلقة مفرغة لا جهدا يوفر ولا عملًا ينجز ولا رهانًا يكسب، وكما ألمحت اليه أنفًا، نحن اليوم في بداية مرحلة الوعي الجاد والعمل الأكثر جدية لتجاوزها، وهذا في يقيني هو الرهان الوطني والحضاري الهام الذي يخوضه الجميع من رأس الهرم حتى قاعدته، وربما لأول مرة في تاريخنا المحلي. وبما أن مشقات الرهان عادة ما تكون بقدر غاياته، فلا مناص من العمل الشاق المتصل الخلاق، ومعه شيء من الصمت عن خطابات المديح والهجاء والتنمية المستدامة ليست نزهة مريحة أو مباراة رياضية جذابة، بل تحول تاريخي حققه آخرون قبلنا ولا شيء يمنعنا من تحقيقه. الريف الجبلي الأخضر ينادي *لطالما ارتبطت القرية بالسكينة والألفة، وظل الحنين إليها قائمًا رغم الهجرة المتزايدة نحو المدن، فهل ترى أن عودة المحب إلى قريته اليوم تفتقد شيئًا من اكتمالها، في ظل هذا الغياب البشري المتصاعد؟ -في كلمة العودة ذاتها عنصر الاجابة الأهم، فلكل رحلة بداية ووسط ونهاية تشبه البداية ولا تتطابق معها في شيء، ثم إن مدننا تعرف كل مساوئ المدن الكبيرة الحديثة، لكنها لا تعرف أو تعترف بشيء من محاسنها، ولذا لا تغري أمثالي بالبقاء فيها، والريف الجبلي الأخضر ينادي ويرحب بالغائبين من أهله وبكل الغرباء أيضا. الحنين لا يحضر كثيرًا هنا، ولقد عبرت في نهاية سيرة الوقت عن الوعي بأنني لن أكون أنا بعد هذه السباحة الطويلة في النهر، وإن قرى الطفولة ماتت، وبيوت الذاكرة هجرها أهلها، لكن الجبال والوديان والأشجار تظل حليفة الحياة، وكل من يبحث عن ظلال وارفة وأجواء هادئة تليق بالمحطات الأخيرة. لم أغادر باريس قط *عشت في باريس نحو عقد من الزمن بين الدراسة والعمل، كيف تنظر اليوم إلى تلك التجربة الطويلة؟ كيف تقيمها الآن؟ -رحلة التعلم والعمل لم تكن قاسية عليّ ولا بخيلة معي، وأقولها لأن تجربة الدراسة والعمل والحياة الثرية الحرة في باريس على مدى عشر سنوات طالبًا ، ثم سنة أستاذًا زائرًا في جامعة السوربون العريقة، وأخيرًا ست سنوات مديرًا عامًا لمعهد العالم العربي هي الهدية الأجمل التي لا يتلقاها إلا ذو حظ عال عظيم، ومع أنني كتبت عن هذه التجربة الاستثنائية في رقص ثم في سيرة الوقت ومكتب على السين، إلا أن ما تبقى هو الأكثر والأجمل، ولا مبالغة حين أقول إنني كثيرا ما أشعر ، حتى وأنا في القرية ، أنني لم أغادر قط باريس، ومن يسكن مدينة النهر والكتب النادرة على ضفتيه، مدينة الجمال والحرية والتجارب الغنية المتجددة ، مدينة المتاحف العريقة والمسارح النشطة والحدائق الأنيقة لا يمكن أن يبرأ من غواياتها الفاتنة، ولي أن أزعم ، فوق ذلك ، أن تناوب البعد عنها والعودة إليها يبرر لي القول بأنها وعاشقها الغريب الأليف أصبحا كينونة واحدة. رحلات التعلم والعمل *بالنظر الى تجربتك الثقافية الحافلة التي خضتها على مدى السنوات الطويلة الماضية والتي تنوعت بين التدريس الجامعي والعمل الأكاديمي والثقافي، والدراسات النقدية، والكتابة الإبداعية والصحفية، وأيضا ادارة معهد العالم العربي في باريس، ما هي أبرز المحطات التي أسهمت في تشكيل شخصيتكِ الثقافية والأدبية؟ وكيف تنظر إلى هذه الرحلة الحافلة اليوم وأنت تستعيد ملامحها بعد كل هذه السنوات؟ -هذه قضية توقفت عندها مطولًا في سيرة الوقت ولذا أختزل فأقول إن رحلات التعلم والعمل هي الناظم الأساس لتجربة حياتي، فمغادرة القرية الصغيرة الهادئة إلى مدينة الرياض الكبيرة الغريبة الصاخبة الجافة كانت صدمة العمر الأولى حقا. لكن الثمرة النوعية جاءت فوق ما توقعت وأجمل مما انتظرت، لأن السفر إلى باريس والعيش فيها عشر سنوات متصلة هي التجربة التي أعادت صياغة وعيي وذوقي ومجمل سلوكياتي إلى هذه اللحظة، فقد كنت أدرس وأعمل وأترحل داخل فرنسا وعموم أوروبا وكلي توق لمعاني الحرية والسعادة والجمال وهي تتجلى وتتحقق كجزء من تجربة العيش اليومي، خاصة وأن جيلي لم يعرف تلك البرمجة الغبية التي تخوف المبتعث من الآخر الكافر المنحط، بل وتغريه بالتحول الى داعية يتوهم ويصدق أن مهمته ليست التعلم، بل هداية الآخر لجنته. وهكذا اتخذت العودة الى الرياض في ذروة المد الصحوي شكلاً من أشكال رد بعض الدَّين للجامعة الأم والوطن الأب وذلك بممارسة التعليم والبحث المعرفي من جهة والتصدي لطاعون التطرف والجهل والعنف بكل الوسائل وفي مختلف المقامات، والمؤكد أنني أسهمت مع غيري بما تيسر في تنمية ما نسميه خطاب التحديث والتنوير. وهذه مسؤولية كل مثقف في كل بلداننا كما يقول محمد أركون وعبد الله العروي وأمثالهما، ولا زلت أحاول وفي سياق « الرؤية « التي فتحت أبواب الأمل على آفاقها، ولا أظنها إلا ثمرة طيبة للوعي الذي شاركنا في بثه وتكريسه لأكثر من ثلاثة عقود. التحول إلى الذات الفردية المختلفة * يُقال إن سيرة الوقت سردٌ لبعض حياة معجب الزهراني، اختيرت تفاصيلها بعناية للتعبير عن رؤى ومواقف معينة، فيما رآها آخرون كسرًا لقوالب السير الذاتية وخروجًا مقصودًا عما اعتدناه من تحفظها. ما تعليقك؟ -السيرة الذاتية تكسير متصل لمرايا الزمن وشظاياه أملاً في اعادة استكشاف تلك الذات التي لا نرى منها سوى السطح ولا نعرف عنها سوى القليل البخيل، وكل كتابة كهذه إما أن تخضع فيها مخزونات الذاكرة الماضية لسلطة الوعي الراهن أو أنها ستأتي استرجاعات توثيقية غثة باردة تزيد الذات الفردية العادية جهلاً بذاتها الانسانية العميقة الملتبسة. حاولت في سيرة وقتي أن أتقصى سيرورة التشكل التي حولتني من ذات اجتماعية عادية إلى ذات فردية مختلفة، بل ومعارضة لقرينتها العادية. ونظراً لكونها ولدت في باريس، كما هي حال رقص، فقد تنفست هواء تلك « الحرية الشهية الواعية» منذ عباراتها الأولى حتى خواتيمها. من هنا حضرت فيها خطابات مهملة أو مقموعة في غيرها، وأعني خطابات الجسد الطبيعي الرغبوي، والفكر النقدي الشكاك المتسائل، والروح القلقة التواقة إلى ما يروي عطشها الوجودي الإنساني المتجدد دونما تفكير في سلطة المتلقي أيا كان. ولا أدعي انني ذهبت الى الأقاصي لأن مراجعات ما قبل النشر تضمنت العديد من أشكال الجرح والتعديل دون شك. ولي أن أزعم أن نص الذات المختلف الصادم هذا لم يقرأ ويحاور بعد كما يفترض لأنه فضح شيئاً من المستورات وانتهك بعض المحرمات الممنوعات. ذات يوم قدمت الهدية الى أحد الأقرباء / الأصدقاء فأعادها إلي اليوم التالي وهو يقول بمزيج حرج وممازحة «يبدو أنك ما كتبت كل هذا «الخزا» لنا، وأنصحك تخليها مستورة في مكتبتك «. ولو كنا في زمن تلك الغفلة العنيفة الجاهلة لربما حدث ما هو أسوأ في ظني! *كونك قارئًا وناقدًا، في رأيك لماذا الأعمال القديمة تبقى أكثر من غيرها؟ -لعله قانون الزمن الذي يمر ويدمر كل شيء، ما عدا تلك الأعمال الجليلة الجميلة التي تزداد هيبة وفتنة واشعاعاً مع الوقت، لأن زمنها الحقيقي هو المستقبل وحده. مشهدنا الثقافي متسع لكنه هش * بوصفك أحد المتابعين للشأن الثقافي وما يشهده من حراك لافت ومحفز، من منجزات ثقافية وتنظيم فعاليات ومناسبات متنوعة. كيف ترى تفاعل الجهات المعنية والأسماء الثقافية مع هذا المشهد وما يُطرح فيه من موضوعات؟ -متابعتي للنشاط الثقافي الوطني جيدة، لكنها ليست متعمقة، والسبب هو الترحال الذي تكرر حتى ألفته، وكذلك التحولات الجذرية المتوالية التي طرأت على البشرية كلها وحولت الكائن إلى متفرج لا يدرك كل ما يرى ويسمع. من هنا فلي أن أقول إن مشهدنا الثقافي متسع متغير متجدد لكنه لا يزال هشاً غير متناسق أو خلاق بما يكفي للاطمئنان عليه وعلى الفاعلين فيه، ولكي نتفهم الحكم فلنا أن نتخيل أن فنون الموسيقى والمسرح والسينما والاستعراضات الاحتفالية الكبيرة لم يرحب بها إلا منذ سنوات. حقبة جديدة في حياتنا *هل يمكن لمن انطلق من فكر تقليدي أن يقود حراكا اجتماعيا متنورا بفعالية؟ -لم أفهم السؤال جيدًا، بل وأجد فيه أثرًا لصوت مكتوم يلمّح دون أن يصرّح، ومع ذلك أقول إنه لا حصانة للفكر التنويري في المجتمعات العربية لان الثقافات السائدة فيها لا تزال تقليدية عتيقة لا تتقبل الفكر الحديث والعلوم الحديثة والفنون الحديثة إلا بصعوبة كبيرة وريبة أكبر، ومع أن استراتيجية « الرؤية « الطموحة الواعدة دشنت حقبة جديدة في حياتنا وثقافتنا، فنحن لا نزال حبيسي عديد الإشكاليات القديمة المتوارثة، مثلنا مثل جيراننا في جغرافية الشقاء المحيطة بنا، وفكر التوحش المعادي للمرأة ولكل مختلف عن الذات في العرق والعقيدة قد يحد من سرعته وسطوته لكنه لا يزول ، إن زال ، إلا على مدى أجيال . سهرة باريسية أنيقة *تقيم سفارات وقنصليات أجنبية فعاليات ثقافية تحظى باهتمام دبلوماسي وثقافي متنوع، كيف تقيم مثل هذه المناسبات في بناء جسور التعاون الآخر، ما هي الأماني والتطلعات التي تحمل حيالها؟ -ذكرت في سيرتي أنني كنت أشارك من حين لآخر في تلك الأنشطة، وبخاصة في الملحقية الثقافية الفرنسية التي كانت متنفساً لطرح ما يتعذر التطرق له في الجامعة أو في نادي الرياض الأدبي أو في المجالس الثقافية المعتبرة آنذاك. وما كنت أدعى للحديث عن قضايا الفكر الفلسفي أو المرأة السينما وغيرها من الفنون الحديثة وأتردد أو أخضع لتلك المحاذير والمخاوف الوهمية التي لا يليق بأستاذ جامعي، وبأي مثقف واعٍ أن يخضع لها. وهل يليق بشخص مثلي أن يرفض فعالية ثقافية جادة تعقبها سهرة باريسية أنيقة في حقبة العنف والجفاف تلك؟! مزرعة الشجر ومزرعة الكتب *ما الذي يشغلك اليوم أكثر: العمل النقدي أم الكتابة الإبداعية؟ أم أن الاستمتاع بالجلوس في أحضان القرية قد استهلك وقتك؟ ما هي المشاريع الجديدة التي تعمل عليها في هذا الفترة؟ -يمضي وقتي بين مزرعة الشجر ومزرعة الكتب والترحل الممتع بين جبال السروات ووديانها غالب الوقت، وتلك الفضاءات المجهولة التي تنادي هذا الغريب الأليف لاستكشافها، أما الناظم العميق لكل قول أو فعل وسفر أو مقام فيظل معرفيًا فكريًا جماليًا في العمق، وللمتقاعد أن يخفف على قلبه وعقله وجسده ما استطاع. مواصلة الترحال *بعد هذه الرحلة الطويلة، ما الذي ذهب وما الذي بقي، وما الذي تأمل في تحقيقه ككاتب ضمن الحراك الثقافي المتنامي في المملكة حاليا؟ -لن اخضع لإغواءات التذكر فأنشد: ذهب الذين أحبهم…وبقيت مثل السيف فردا، فما ذهب مضى وسيبتعد كل لحظة أكثر وأبعد. والرهان النبيل الحقيقي لكل إنسان حيّ واع يظل هو ذاته في العمق؛ مواصلة الترحال وراء معاني الوجود الأصيل الجميل النبيل التي طالما راودته وأقنعته بجدوى الحياة في الحياة ذاتها، لا قبل ولا بعد.