
في خمسينات القرن الماضي؛ شهدت العلاقات بين المملكة والولايات المتحدة الأمريكية تطورًا ملحوظًا من خلال زيارة طبية ذات طابع دبلوماسي قام بها الدكتور داريل كرين، برفقة فريق طبي أمريكي، لم تقتصر هذه الزيارة على الجانب الطبي فحسب، بل وثّق الدكتور كرين من خلالها الحياة في الرياض بعدسته، ملتقطًا صورًا ملونة نادرة أصبحت اليوم جزءًا مهمًا من الأرشيف التاريخي للمملكة، في وقتٍ لم يكن فيه التصوير شائعًا أو متاحًا إلا للقلّة. خلفية الزيارة في فبراير 1950م، طلب السفير الأمريكي في المملكة من وزارة الخارجية الأمريكية إرسال طبيب متخصص لعلاج الملك المؤسس -رحمه الله -، جاء هذا الطلب في فترة حساسة للعلاقات السعودية ـ الأمريكية، حيث كانت هناك توترات بشأن القضايا الإقليمية والاعتراف الأمريكي بإسرائيل، بالإضافة إلى مفاوضات حول تقسيم أرباح شركة أرامكو. استجابت الولايات المتحدة لهذا الطلب بتشكيل فريق طبي ضم خبراء في مجالات متعددة، ترأس الفريق العميد والاس غراهام، الطبيب الشخصي للرئيس الأمريكي آنذاك هاري ترومان، وضم أيضًا الدكتور جيلبرت ماركوارت، والدكتور داريل كرين، وهو أخصائي في علاج التهاب المفاصل من واشنطن العاصمة، كان الدكتور كرين معروفًا بهوايته في التصوير الفوتوغرافي، مما أضاف بُعدًا توثيقيًا لهذه الرحلة. أيام في الرياض وصل الفريق الطبي الأمريكي إلى الرياض في 18 أبريل 1950م، حيث استُقبلوا بحفاوة في قصر الضيافة الجديد الذي كان قد أُعدّ آنذاك لاستقبال ملك أفغانستان، وعند لقائهم الأول بالملك عبدالعزيز، عبّر الملك المؤسس عن امتنانه العميق للرئيس ترومان على إرسال فريقه الطبي الشخصي، وأبدى استعداده للتعاون الكامل مع الأطباء، وبدأ الفريق الطبي في تقييم حالة الملك الصحية، وقدموا له علاجات متعددة هدفت إلى تخفيف آلامه وتحسين حركته. ووفقًا للتقارير، شهدت حالة الملك تحسنًا ملحوظًا، حيث تمكن من الحركة بسهولة أكبر وتقلصت حاجته لاستخدام الكرسي المتحرك، ولم تقتصر نتائج هذه الزيارة على الجانب الطبي فقط، بل أسهمت أيضًا في تعزيز العلاقات بين المملكة والولايات المتحدة، حيث أدت هذه البعثة إلى خلق جو من النوايا الحسنة بين البلدين، ومهدت الطريق لتوقيع اتفاقيات تعاون مستقبلية، بما في ذلك اتفاقية الدفاع المتبادل التي وُقعت لاحقًا. في تلك الأثناء؛ استغل الدكتور كرين فترة إقامته في الرياض لممارسة هوايته في التصوير، ملتقطًا مجموعة من الصور الملونة التي توثق الحياة في العاصمة في تلك الفترة، التقط كرين صورًا للرياض وهي لا تزال تحتفظ بطابعها النجدي التقليدي، بأسوارها الطينية الشاهقة، وأبراج المراقبة، وأبوابها التاريخية مثل باب الثميري وباب المريقب، مع انتشار البيوت الطينية ذات النوافذ الصغيرة وأسقف الخشب وسعف النخيل، كما وثّق كرين الحياة الاجتماعية البسيطة والتجارية، مثل سوق حراج ابن قاسم القديم، والأسواق المكشوفة، وباعة الخضار والتمور، والناس هم يرتدون الملابس التقليدية البسيطة آنذاك، ويستخدمون الدواب في التنقل، في مشهد يجسد الروح الشعبية للرياض قبل الطفرة النفطية. التقط أيضا صورًا للطرق الترابية غير المعبدة، حيث كانت حركة السير تعتمد على الجمال، والحمير، والعربات الخشبية التي تجرها الحيوانات، مع بدايات خجولة للسيارات القديمة التي كانت نادرة جدًا وقتها، ومن أبرز ما صوره للمباني الرسمية: قصر الحكم، قصر المربع، والأسوار الخارجية للمدينة، وهي مبانٍ تُعدّ من الشواهد التاريخية التي كانت تشكل مراكز الحكم والحياة السياسية في العاصمة، أما أكثر ما يميّز صوره فهو حسّه الإنساني؛ فقد التقط صورًا للأطفال وهم يلعبون في الأزقة، والنساء بلباسهن التقليدي، والرجال بلباسهم النجدي المعروف، وملامح البساطة والرضا واضحة على وجوه الجميع. إرث الدكتور كرين بعد عودته إلى الولايات المتحدة؛ احتفظ الدكتور كرين بالعديد من الصور والوثائق المتعلقة برحلته إلى المملكة، وفي عام 2015م تم الكشف عن مجموعة من صوره النادرة التي كانت موجودة في أرشيف عائلته، مما أعاد تسليط الضوء على هذه الزيارة التاريخية، والآن بعض هذه الوثائق والصور محفوظة في مكتبة هاري ترومان الرئاسية، حيث تُعتبر مصدرًا قيمًا للباحثين والمهتمين بتاريخ العلاقات السعودية ـ الأمريكية، إذ تمثل صور كرين وثيقة نادرة، ليس فقط لأنها تكشف ملامح الرياض قبل التحولات العمرانية الكبرى، بل لأنها تبرز شكل الحياة الطبيعية للسكان وعلاقتهم بمكانهم، قبل اكتشاف النفط بكامل طاقته وتطور المدينة إلى عاصمة عصرية، وقد استخدمت هذه الصور لاحقًا في العديد من المعارض، والأبحاث، والكتب التي تناولت تاريخ الرياض والتحولات العمرانية والاجتماعية في المملكة. مما لا شك فيه فإن زيارة الدكتور داريل كرين إلى المملكة تُبرز الدور الذي يمكن أن تلعبه الدبلوماسية الطبية في تعزيز العلاقات بين الدول، ومن خلال مهاراته وهوايته في التصوير، لم يسهم الدكتور كرين فقط في تلك الدبلوماسية، بل قدّم أيضًا توثيقًا بصريًا فريدًا للحياة في الرياض خلال تلك الفترة، مما يجعل إرثه جزءًا مهمًا من التاريخ المشترك بين المملكة والولايات المتحدة.