
على مر العصور، ظلّت القهوة العربية رمزًا للضيافة والكرم، تسري في المجالس كما تسري الحكايات، وتُنقل من جيل إلى جيل محمّلة بعطر الهيل وعبق التاريخ، ليست مجرد مشروب يُرتشف، بل طقس اجتماعي يعبّر عن الاحترام والمودة، ومن بين كل الأدوات التي ارتبطت بها، تتصدر الدِلال المشهد، فهي ليست مجرد وعاء يُصب منه السائل، بل هي عنوان الجود ومرآة الثقافة، تعود صناعتها إلى قرون بعيدة، بعضها يشير إلى ما قبل الميلاد، حيث شكّلت جزءًا أصيلًا من الهوية العربية، في المملكة.. لا تزال القهوة تُعد وتُقدَّم وفق تقاليد متوارثة، تعكس عمق الإرث الثقافي الذي يتجاوز كونه مجرد عادة إلى كونه فنًّا متكاملًا، من التحميص إلى التقديم، ومن اختيار الدلة إلى انتقاء الفنجان المناسب. أوعية الكرم والضيافة لم تكن الدلة مجرد وعاء للقهوة، بل كانت شاهدة على الحكايات، ورفيقة المجالس، وعنوانًا للكرم. حملت بين نقوشها أسرار التاريخ، وبين طيات معدنها عبق الضيافة. من الفخار إلى النحاس، ومن الأحساء إلى حائل، ومن قصور الغساسنة إلى بيوت البدو، بقيت الدلة رمزًا خالدًا، كأنها قطعة من الزمن، تأبى أن تُنسى، ويروي المؤرخون أن الدِلال دخلت الجزيرة العربية مع حاتم الطائي، الذي شاهدها في قصور الغساسنة، قبل أن تنتشر في نجد والحجاز، ومع مرور الزمن تحولت إلى جزء لا يتجزأ من الثقافة العربية، وأصبحت صناعتها فنًّا قائمًا بذاته، تتوارثه الأجيال. في بداياتها، صُنعت الدِلال من الفخار، على غرار أواني الطهي التي كانت تُشكَّل من الطين ثم تُحرق في أفران بدائية لتعزيز صلابتها، ومع تطور الصناعة في الجزيرة العربية، تطورت الزخارف وتنوّعت المعادن، فأصبحت الدِلال تُصنع من مزيج من البرونز والنحاس، وأحيانًا من الفضة الخالصة، ما منحها رونقًا ملكيًا فاخرًا، فصارت الدِلال أكثر صلابةً وزخرفة، ومن بين أقدم هذه الدِلال؛ تبرز الدلة البغدادية التي نشأت في العراق وانتشرت في بقية أرجاء الجزيرة العربية. تُعرف مجموعة الأواني المستخدمة في إعداد القهوة باسم المعاميل، وهي ما يُطلق عليه اليوم الدلال، وتصنع عادةً من النحاس الأصفر أو الأبيض، ولكل منها دور محدد في عملية التحضير، بدءًا من الغلي وحتى التقديم، وهي: المطباخة (الملقمة): أصغر الدلال، تُستخدم لغلي القهوة وهي التي تبدأ فيها عملية الاستخلاص الأولي، وهناك أيضا المصفاة: وهي أكبر الدلال، وكانت توضع قديمًا بالقرب من النار لتجميع بقايا القهوة، أو ما يُعرف بـ «الحثل»، أما المبهارة فهي دلة متوسطة الحجم، يُصفى فيها مشروب القهوة ويُضاف إليها الهيل والبهارات المفضلة، وهي التي تُستخدم عادةً لسكب القهوة قبل تقديمها، أما الزل (الترمس): أصغر الدلال حجمًا، وتُستخدم للتقديم نظرًا لخفتها وسهولة حملها، ما يتيح للضيف تلقي فنجانه دون عناء. مناطق ودلال في الأحساء؛ توجد الدلة الحساوية التي تعدّ من أقدم الدِلال في المملكة، وقد عُرفت بجودتها العالية وخامتها المتينة، واستوحى صانعوها تصميمها من شكل النخلة، رمز الأحساء، وكان شارع الحداديد في الهفوف مركزًا لصناعتها، قبل أن تتراجع الحرفة مع الزمن، وإن كانت بعض الورش لا تزال تحاول إحياءها، وتتميز بلونها الأبيض وغطاؤها الأصفر، أما الدلة البغدادية فتصنع في بغداد وفي داخل غطاؤها قمع يصدر صوتاً عند تحريك الدلة أثناء الصب، وتستخدم بكثرة في المملكة. وفي حائل؛ لا تزال تُحافظ بعض الورش على طرق التصنيع اليدوية، وتشتهر المنطقة بصناعة الدلة الحايلية، من أبرز أنواعها «القريشيات» التي تُصنع في قرية قصر العشروات، حيث يعتمد الحرفيون في عملهم على مهاراتهم اليدوية التي اكتسبوها من ممارستهم للعمل الحرفي، وتتميّز بمشربها القصير وغطائها الفريد، مما يمنحها هوية خاصة تختلف عن الدِلال الحساوية والبغدادية، وعند تصنيعها يبدأ الحرفي بصهر النحاس ثم طرقه وتشكيله بدقة، فيُحدد موضع المشرب ـ الفوهة التي يُسكب منها القهوة ـ بدقة متناهية، ويحرص على تثبيت الغطاء والقاع بإحكام حتى لا ينفصل بمرور الزمن. الدلة القريشية، المعروفة أيضًا بالقرشية، سُمّيت نسبة إلى قريش، وتُصنع في مكة المكرمة، وتمتاز بجودتها العالية وانتشارها الواسع في مختلف مناطق المملكة، وتتميز بزخارفها الهندسية الفريدة، ما يجعلها تحفة فنية بقدر ما هي أداة لصنع القهوة، وتتميز بلونها الأبيض والأصفر، أما الدلة الحجازية فقد اشتهرت في منطقة الحجاز بفخامتها وشكلها الأنيق، وغالبًا ما تُصنع من النحاس المصقول، ما يمنحها لمعانًا خاصًا، كانت تُستخدم في قصور السلاطين والتجار، ولا تزال حتى اليوم تُعد من أرقى أنواع الدِلال، أما الدلة الفخارية أو «الجَبَنة» فتنتشر في منطقة جازان حيث ازدهرت صناعة الفخار، برزت الجَبَنة كأحد أهم أدوات تحضير القهوة، تُصنع من الطين المخلوط بالماء، ثم تُجفف وتُحرق في أفران خاصة، ما يمنحها صلابة مناسبة، إلى جانب كونها أداة تحضير، تُضفي الجَبَنة نكهة خاصة على القهوة، وتحافظ على حرارتها لفترة أطول، وهناك أيضا دلة رسلان والتي تنسب إلى صانعها رسلان في الشام، لونها أصفـر ولهـا أحجام مختلفة، وتعتبـر غالية الثمن مقارنة بالدلال الأخرى. أدوات ومعاميل القهوة طريقة تحضير القهوة وعاءٌ للهوية الثقافية للمجتمع السعودي والخليجي ككل، فكل أداة من أدواتها، وكل خطوة من خطواتها، تحمل في تفاصيلها قصة من الأصالة والمهارة المتوارثة، وفي كل مرة يُسمع فيها صوت «دق النجر»، أو تفوح رائحة البن المحمّص، يتجدد ذلك التراث العريق الذي تحمله فناجين القهوة، شاهدة على تقاليد الضيافة التي لا تبلى بمرور الزمن، يقول أحد الشعراء في وصف القهوة وصناعتها: إن ضاق صدري قُمْتْ أحوف المعاميل أحوفهن من قبل يبدي بْهِنّ عار وأحط بالمِحمَاسْ هيل بلا كيل وأَحَمِّس الطبخة على حاجر النار في هذه الأبيات، تتجلى علاقة الإنسان العربي بالقهوة، فإعداد القهوة لا يقتصر على وضع البن في الماء الساخن، بل هو حرفة قائمة بذاتها، تتطلب أدوات دقيقة وعناية خاصة، ما يجعلها عنوانًا للأصالة وكرم الضيافة. لا تبدأ القهوة إلا بمرحلة تحميص البن، وهنا يأتي دور المحماس، وهو آلة تصنع من الحديد أو النحاس، تُستخدم لتحميص حبوب القهوة على النار. يمتاز المحماس بيد طويلة تُعرف بيد المحماسة، تُستخدم لتحريك البن وتقليبه حتى يكتسب اللون والرائحة المطلوبة، ويتطلب استخدامه مهارة خاصة لضبط حرارة النار والتأكد من توزيع الحرارة بالتساوي، فكل درجة من التحميص تترك أثرًا في نكهة القهوة ومذاقها الفريد، وبعد أن يكتمل تحميص البن، لا يُطحن مباشرة، بل يمر بمرحلة التهدئة، حيث يُوضع في المبرد، وهو إناء يصنع من الخشب أو الخوص، ويأتي بأشكال متعددة، دائرية أو مستطيلة، تُستخدم لتهوية البن ومنحه قوامًا متجانسًا قبل أن يُنقل إلى مرحلة الطحن، وحينما يصبح البن جاهزًا، يُنقل إلى النجر، وهو وعاء مجوف مصنوع من الحجر أو النحاس، ويُستخدم لطحن القهوة مع الهيل. النجر ليس مجرد أداة طحن، بل هو رمز اجتماعي وفن قائم بذاته، إذ يرتبط صوته بنداء الضيافة، فهو بمثابة إعلان غير مباشر للضيوف بأن القهوة قيد التحضير. بل إن «دق النجر» له أصوله وإيقاعاته التي تنطرب لها الآذان، حيث قسّمه أبناء البادية إلى ثلاث طرق رئيسية: التثليثة، وهي ثلاث دقات متتابعة، اثنتان ثقيلتان في وسط النجر، والثالثة خفيفة عند طرفه، والتربيعة؛ وهي أربع دقات، ثلاث منها قوية في الوسط، تليها دقة خفيفة في الطرف، والتخميسة وهي خمس دقات، أربع ثقيلة في المنتصف، ثم واحدة أخف عند الحافة. أصالة النكهة وعراقة التقاليد تتنوع الأدوات المساعدة التي ترافق القهوة العربية وتقديمها، ولكل منها دور أساسي يعكس دقة العادات والتقاليد المرتبطة بهذا المشروب الأصيل، ومن بين هذه الأدوات ليف الدلة، الذي يُعرف عند البعض باسم اللثامة أو الخلبة، وهو عبارة عن ألياف نخلية أشقر اللون تُوضع داخل مصب الدلة لتصفية القهوة ومنع نزول الهيل مع السائل أثناء صبه في الفناجين، مما يضمن نقاء المذاق ويعكس حرص صانع القهوة على تقديمها بأفضل صورة، كما أن طحن البن نفسه يتطلب أداة خاصة تُعرف باسم المهباش، وهي آلة تُستخدم لطحن حبوب القهوة بطريقة متقنة تحفظ نكهتها الأصلية وتعزز جودتها، وعند سكب القهوة، فإن التعامل مع حرارة الدلة يستدعي وجود البیز، وهو قطعة قماشية سميكة ذات طبقتين محشوتين بالقطن أو الصوف، تُطرّز بزخارف جميلة وألوان زاهية، وتُلف حول عروة الدلة لحماية اليد من حرارة النحاس عند الإمساك بها. أما الفنجان، فهو الوعاء الذي تُشرب فيه القهوة، وقد كان يُصنع قديمًا من الفخار قبل أن يصبح الخزف الأبيض هو المادة الأكثر استخدامًا في صناعته، وتتميز المنطقة الجنوبية في المملكة بصناعة نوع خاص من الفناجين يُعرف باسم فنجان الحيسي، وهو يعكس الطابع التقليدي والمهارة الحرفية لسكان تلك المنطقة، ولا تتوقف رمزية الفنجان عند كونه وعاءً للشرب، بل يحمل معاني اجتماعية عميقة، ففي بعض مناطق المملكة، يُعتبر كسر الفنجان دلالة على احترام الضيف وتقديره، حيث يعبّر المضيف بذلك عن امتنانه لزيارة الضيف ويؤكد أن هذا الفنجان لن يُستخدم بعده، في إشارة إلى مكانة الضيف الخاصة في المجلس، وهكذا، تظل أدوات القهوة وأوانيها أكثر من مجرد عناصر مادية، فهي جزء من إرث ثقافي أصيل يعكس قيم الكرم وحسن الضيافة، ويمتد أثرها عبر الأجيال، مؤكدًا أن القهوة ليست مجرد مشروب، بل طقس يحمل في طياته روح المجتمع وأصالته. ولا يُقدَّم الفنجان كيفما اتفق، بل وفق طقوس متوارثة؛ يبدأ بأهم الضيوف، ويمر بثلاث مراحل رمزية: الأول «لرأسي»، ليمنح العقل صفاءه، والثاني «لبأسي»، ليغذي الشجاعة، والثالث «لعماسي»، ليبدد التعب ويمنح السكينة. وبينما تتغير العصور وتتبدل العادات، تبقى هذه الطقوس ثابتة، تؤكد أن القهوة ليست مجرد شراب، بل هوية وامتداد لتراث حيّ. أيقونة الضيافة في المجالس السعودية، لا تُمثل القهوة مجرد مشروب ساخن، بل هي روح الضيافة ووشاح الكرم الذي لا يغيب عن أي مناسبة، سواء كانت فرحًا أو مأتماً، في القصور الفخمة أو تحت السماء المفتوحة في رحلات التخييم، حيث تلتف الجموع حول النار، منتظرة لحظة سكبها، كما تنتظر لحظة التقاء الأرواح في حديث ممتد. يعلو صوت النجر قبلها، معلنًا بدء الطقس العريق، ويعبق المكان برائحة البن والهيل، فيما يتأمل الضيوف حركة اليد الماهرة التي تصب القهوة باليمنى، وفق آداب ضاربة في الجذور. وإذا كنا نحتفل هذا العام 2025 بعام الحرف اليدوية؛ فلا يمكن أن نغفل إعلان عام 2022 عامًا للقهوة، الذي جاء تأكيدًا على مكانتها العريقة وامتدادها التاريخي، إذ لم يكن ذاك الإعلان مجرد احتفاء رمزي، بل تضمن مبادرات نوعية، من دعم زراعة البن في جنوب المملكة، إلى تعزيز صناعة أدواتها التقليدية، ورغم تراجع صناعة الدِلال التقليدية في بعض المناطق، إلا أن حائل ظلّت الحاضنة الأهم لهذه الحرفة العريقة، خاصة بعد تقلص الإنتاج في العراق وسوريا نتيجة للاضطرابات، فأصبحت مقصدًا لصناع الدِلال وموطنًا لأجودها، وتجد طريقها إلى القصور الملكية والأميرية، بل وحتى إلى بعض القصور الأوروبية، لا يزال الحرفيون السعوديون يصرون على إبقاء هذا الفن نابضًا بالحياة، ينقلونه من جيل إلى آخر، ليظل وهج الدِلال وعبق القهوة شاهدين على حضارة لا تموت، وكرم لا ينضب.