قراءة في سيرة الشاعر الراحل سعد البواردي (رحمه الله) و نماذج من شعره ..
تغنّى بالوطن وصوّره واقعاً وجدانيّاً يلامس شغاف قلبه.

يُعد الشاعر الراحل سعد بن عبد الرحمن البواردي (1348-1446هـ / 1930-2025م) رحمه الله أحد أبرز الأدباء والشعراء السعوديين الذين تركوا بصمة واضحة في المشهد الثقافي والأدبي بالمملكة العربية السعودية، وأسسوا لنهضة إبداعية واعدة. وُصف بأنه مؤسّس مدرسة الشعر الواقعي في المملكة العربية السعودية، حيث امتاز شعره بالصّدق والصفاء و البساطة و الوضوح، والارتباط بالهموم الإنسانية،والالتزام بالقضايا الوطنية والعربية. كما كان رائدًا في الصحافة الأدبية من خلال تأسيسه لمجلة “الإشعاع”، وكاتبًا اجتماعيًا وقاصًا ترك إرثًا غنيًا من الشعر والنثر،ورث ملكة الشعر عن والده أميرً(شقراء) الذي كان شاعرًاً شعبيًاً، مما أثر في تنشئتة الأدبية منذ الصغر، فهو يذكرنا بواحد من عمالقة الأدب في العصر الحديث وهو عباس محمود العقاد الذي استقى شعره من الواقع في ديوانه (عابر سبيل) وهوأحد دواوينه العشرة ، قال عنه طه حسين “ حين أسمع شعره إنما أسمع الحياة المصرية الحديثة “ وإن كان حضور الوعي في شعره بوصفه مفكرا حاضراً دائماً يضفي لونا من ألوان التجريد، ولكنه في واقعيته يبدو ملتزماً، وهي السمة التي تجعلنا نستذكره حين نتحدث عن شاعرنا الراحل (رحمه الله) فهو ينتمي إلى المدرسة ذاتها وإن كان لكل واقعٍ خصوصيته و لكل شاعر منهجه. وهذا التوصيف لشعر البواردي مردّه في جانب منه لتجربته العملية؛ فقد عمل البواردي في عدة وظائف متنوّعة، مما أكسبه خبرة حياتيّة واسعة أثّرت في كتاباته؛ فقد شغل منصب مدير إدارة العلاقات العامة في وزارة التعليم (المعارف سابقًا)، ومديرًا لمجلة “المعرفة”، وسكرتيرًا للمجلس الأعلى للتعليم، ثم سكرتيرًا للمجلس الأعلى للعلوم والفنون والآداب. كما عُين ملحقًاً ثقافيًا في بيروت والقاهرة، وهي تجربة عزّزت تواصله مع الأوساط الأدبية العربية. تقاعد عام 1409هـ (1989م)، لكنه ظل نشطًا في الكتابة والإبداع حتى وفاته في 22 شوال 1446هـ (20 أبريل 2025م) عن عمر 95 عامًا. و يُعتبر البواردي من رواد الشعر الواقعي في السعودية، مزج بين الواقعية الوصفيّة، والرومانسية الوجدانية في قصائده. كتب شعرًا يعكس هموم الإنسان والمجتمع، مع تركيز خاص على القضايا الوطنيّة والعربيّة، مثل فلسطين والجزائر. من أبرز دواوينه الشعرية:أغنيات لبلادي (1401هـ/1981م): ديوان يعبر عن حب الوطن والانتماء للمملكة وقصائد تتوكأ على عكاز (1408هـ/1988م): يعكس تأملاته في الحياة والمجتمع وقصائد تخاطب الإنسان (1409هـ/1989م): يركز على القيم الإنسانية والصبر في مواجهة التحديات ورسائل إلى نازك (1406هـ): يتضمن قصائد ذات طابع وجداني وعاطفي وصدر له أكثر من 13 ديوانًا شعريًا، إلى جانب 40 كتابًا مخطوطًا لم تُنشر بعد، تميز شعره بالوضوح في الرؤيا والسلاسة في اللغة، والبساطة في التصوير، والحجاج المنطقي السهل الذي لا يوغل في الفلسفة و يظل قريباً من شاطيء الحياة. و لم يقتصر إبداع البواردي على الشعر، بل امتد إلى النثر والقصة القصيرة، بدأ مسيرته الأدبية بالقصة، حيث فاز بالجائزة الثالثة في مسابقة أدبية نظمتها صحيفة “البلاد السعودية” في أوائل الستينيات الهجرية بقصة بعنوان “على قارعة الطريق” ومن أبرز أعماله النثرية: (حتى لا نفقد الذاكرة) يوثق فيه الذاكرة الثقافية والاجتماعية السعودية، و(فلسفة المجانين(1961م): وهو عمل ساخر يطرح أسئلة فلسفية ونقدية حول المجتمع وشبح من فلسطين (1377هـ): مجموعة قصصية تعكس اهتمامه بالقضية الفلسطينية وشريط الذكريات: سيرة ذاتية توثّق محطات حياته وتجاربه ،و صدر له خمسة عشرةكتابًا نثريًا، تناول فيها مواضيع اجتماعية، ثقافية، وتاريخية ، و كان البواردي رائدًا في الصحافة الأدبية السعودية، حيث أسس مجلة “الإشعاع” في الخبر عام 1375هـ (1955م)، وهي أول مجلة أدبية اجتماعية تُصدر من الساحل الشرقي للمملكة، صدر منها 23 عددًا على مدار عامين، وكان البواردي يتولّى تحريرها وكتابة معظم محتوياتها تحت أسماء مستعارة مثل “فتى الوشم” و”أبو سمير”وواجه تحديات مالية كبيرة، إذ كان يمول المجلة من راتبه الشخصي، لكنه استمر في إصدارها بدافع شغفه بالثقافة ،كما كتب زاوية شهيرة بعنوان “استراحة داخل صومعة الفكر” في جريدة “الجزيرة” على مدى عقود، تناولت قضايا فكرية واجتماعية بأسلوب عميق وساخروفقًا للدكتور حسن الهويمل في كتابه “اتجاهات الشعر المعاصر في نجد”، يتميز البواردي بمزاوجته بين الواقعية والرومانسية فشعره يعكس تجاربه الحياتية، حيث استلهم من ظواهر المجتمع البسيطة ليبدع صورًا شعرية لافتة ، كما تميز نثره بالسخرية الذكيّة والنقد الاجتماعي الحاد، كما يتضح في “فلسفة المجانين” ركّز في كتاباته على القضايا الإنسانية، مثل الصبر، الأمل، والعدالة، واهتم بالقضايا العربية، خصوصًا فلسطين والجزائر، كرّمته الدولة فقلّده خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وساماً رفيع المستوى وحظي البواردي بتكريم واسع في الأوساط الأدبية تقديرًا لإسهاماته؛ ففي عام 1435هـ (2014م)، كُرم في مهرجان الجنادرية 29 كما كرمته المؤسسات والصالونات الثقافية. وثمة من يرى أن هناك ما يصل بين نهج البواردي، الواقعي ورؤية محمود درويش وبدر شاكر السياب، ونازك الملائكة على اختلاف مشاربهم وجماليات أشعارهم، فهم يشتركون في تصوير الواقع الاجتماعي والإنساني، سواء كان ذلك من خلال القضايا الوطنية (البواردي ودرويش) أو الهموم الاجتماعية (السياب ونازك) لكن درويش يتميز بتركيزه على الهوية الفلسطينية، بينما يتجه السياب ونازك إلى قضايا إنسانية أكثر عمومية. ويعتمد الجميع على الصِّور الشعرية المستمدة من البيئة (نجد لدى البواردي، الصبّار لدى درويش، الضباب لدى السياب، الليل لدى نازك). لغتهم سلسة لكنها عميقة، مع التركيز على العاطفة والتجربة الشخصية. وفي القضايا العربية: البواردي ودرويش أكثر وضوحًا في التفاعل مع تلك القضايا (فلسطين والجزائر)، بينما يتناول السياب ونازك قضايا اجتماعية وفلسفية، مع إشارات غير مباشرة إلى الهمّ العربي. ويشترك الجميع في القدرة على تحويل الواقع إلى صور شعرية مؤثرة، سواء كان ذلك من خلال تصوير المقاومة عند (درويش)، الاغتراب في شعر (السياب)، و المعاناة لدى (نازك) وإن اختلف المنظور و تفاوتت الأساليب. ويمكن تبيّن اتجاهات ثلاثة في شعره الواقعي : الأول وطني يتمثل في قوله: عيناي ما هابتا ليلاً ولا غسقا فأنت يا موطني في مهجتي ألقا أراك في كل وجهٍ من بني وطني عينين لم تطبقا جفناً ولا حدقا أراك فجراً تسريني نسائمهُ وصوت حبٍّ يفيض الدفء مذ نطقا أراك يا نجدُ في قلبي مدى زمنٍ نوراً يضيء الدروبَ الحرَّ إن سلقا هذه الأبيات ذات طابع رومانسي ، وربما بدا أن ّذلك يتناقض مع ما عرف به الشاعر من واقعية التوجّه ؛ وهنا لا بد من أن أشير إلى أن ماعرف بالواقعية في توجّه الشاعر لا يعني الإحالة إلى مذهبيّة الفكر الواقعي و مدرسيّة الأسلوب الفني ، وإنما تأتي النسبة للموضوع فحسب ؛ فالشاعر يتغنّى بالوطن الذي ينتسب إليه ويعيشه واقعاً وجدانيّاً يلامس شغاف قلبه ؛أما طابعه فهو عاطفي يتّسم بذاتية المشاعر والتحليق في أجواز الخيال وكونيّة الصورة واستلهام الطبيعة ومعجم العشق، ونورانية الحقول الدلالية و إيقاع البحر البسيط وغنائية التعبير، و الإشراقات التي تتجلى عبر استلهاماته وتمثّلاته لما يداعب الخيال ويستثير مكامن الوجد عنده ،و كل ذلك من خصائص الرومتنسية التي يعبّر عنها الدكتور عبد القادر القط في كتابه (الاتحاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر) وفي اتجاهٍ عروبيٍّ يرنو الشاعر إلى قضايا أمته وفي الصميم منها قضية فلسطين التي اغتصبها الصهاينة وأوسعوا شعبها قتلا و تنكيلا كما في قوله: حجرٌ بكفِّ الفتى يغدو لهُ سيفاً والبحرُ يعلو إذا ما ثارَ فيه صدرُ يا قدسُ، يا جرحَ أمتنا، لنا عزةٌ في غزةَ الأنفاسُ يحييها لنا القدرُ أنشدْ لكِ الشعرَ صوتاً للصمودِ غدا فالظلمُ يُمحى إذا ما الحقُّ قد قُرُّ يغالب الحزن ويتذرّع بالنداء ليافا و القدس في وَلهِ العاشق وتوق الوامق الذي يغالب الحنين ويقارع الشجن ويحلّق مع الخيال حيث يتحول الحجر إلى سيف وأنفاس الصدر إلى موجات تعلو وتهبط، ويلتمس مختلف أشكال التعبير البياني ويستعير النهر للدماء النازفة، ويناشد الضمائر في سورة الانفعال و ووقدة الحماس التي تتبدّى في التكرار (الحر فينا حر) وفي التذييل وتجلّيات الانفعال التي تظهر في الصور الكونية ، وازدحام أساليب النداء التي تنمّ عن التعاطف واقتناص الحكمة وبلورة الرؤى ، واستلهام ثورة الحجارة التي تتحوّل إلى سيوف في أيدى أطفال الانتفاضة، صور منتزعة من صميم الواقع تتجاوب مع ما يصطخب فيه من وقائع و أحداث ، فضلاً عن الثنائيات الضّدية التي تتشكّل عبر ظاهرة الطباق في المصطلح البلاغي ، وتلك التي تتجانس حروفاً وإيقاعاً (غزة و غزة) فهذا التوظيف البديعيّ يتساند مع جماليات النص وإيقاع البحر البسيط في تفعيلتيه اللتين تتوالى فيهما المتحركات و السواكن في انتظام وسلاسة، كل ذلك ينمّ عن قراءة متأنية للواقع و عمق الشعوربوطأته. أما الواقعية على المستوى الإنساني فتتمثل في قوله: ما ضاقَ دربٌ ولم تبنِ يداكَ لهُ جسراً من الأملِ المعطاءِ مُزدحما في كلِّ وجهٍ ترى أحلامَ مغتربٍ وفي الدمعِ المُرِّ تبصرُ وجهَ مُبتسما شعري لكَ اليومَ درعٌ من تصبّرِهِ في الصبرِ يُولدُ فجرٌ للمدى عَلَما رؤيا متفائلة مستبشرة تفتح آفاق الأمل؛ فثمة حقل دلاليّ يدل على التواصل والانفتاح (الدرب و الجسر والأمل المعطاء) في مقابل ( الحلم والانفراج و الابتسام) وتكتمل ثلاثية الأمل في حقلها الثالث (الصبر و الدرع و الفجر و الولادة) هكذا تلتئم أبعاد إنسانية مستبشرة في لغة شعريّة مصفاة وصور متقاطرة في شريط منفتحة فضاءاته على مشاهد تنفرج فيها الزوايا و تتواصل فيها الأسباب، وتشرق على محياها ابتسامات الأمل و يولد الفجر، لافاق إنسانية رحبة تتبدد معها ظلمات تكاثفت وتنفرج بها الكربات وقد توالت . رحم الله شاعرنا الرائد وأسكنه فسيح جناته.