
في الأول من مايو من كل عام، تتوجه الأنظار نحو الموارد البشرية باعتبارها شريكًا محوريًا في عملية البناء والتنمية الشاملة. حيث تنادي منظمة العمل الدولية إلى تحقيق العمل اللائق للجميع كأداةٍ للعدالة الاجتماعية والسلام الدائم، من خلال توفير فرص عمل إنتاجية، بأجور عادلة، وحماية اجتماعية شاملة. ويأتي “يوم العمل الدولي” لعام 2025 ليؤكد من جديد أن اليد العاملة هي الأساس في بناء اقتصاد قادر على مواجهة تحديات المستقبل. في المملكة العربية السعودية، وتحت مظلة “رؤية 2030”، تضاعفت أهمية الموارد البشرية كحجر أساس في التحول الوطني. فلم تكن رحلة تنمية رأس المال البشري قصيرة ولا سهلة، لكنها أثمرت تحولات جذرية واضحة المعالم. ومع تسارع الأتمتة والتحول الرقمي، يظل العامل السعودي محور جهود التأهيل. وتؤكد الإحصاءات الرسمية أن سياسات السعودة المدروسة رفعت نسبة السعوديين العاملين في القطاع الخاص إلى أكثر من (50%) خلال خمس سنوات، وزادت نسبة مشاركة المرأة في القوى العاملة من (23%) في عام 2016م إلى أكثر من (34%) في نهاية 2024م. وقد ساهم برنامج “نطاقات” في رفع نسب التوطين، مع توفير حوافز – مشجعة - للمنشآت الصغيرة والمتوسطة. ومع التطورات المتسارعة في تقنيات الذكاء الاصطناعي، أصبحت الموارد البشرية أمام تحدٍ حاسم يتطلب إعادة التفكير في المهارات المطلوبة لوظائف المستقبل. فبينما توفر الأتمتة إمكانات هائلة لتعزيز الكفاءة والإنتاجية، إلا أنها تهدد في الوقت ذاته بإزاحة بعض الوظائف التقليدية، مما يستدعي من المؤسسات وصناع القرار بناء استراتيجيات استباقية لإعادة تأهيل القوى العاملة. إذ تشير تقارير المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن نحو (85) مليون وظيفة قد تُستبدل في العام الجاري 2025بالآلات والبرمجيات الذكية، مقابل خلق (97) مليون وظيفة جديدة تتطلب مهارات رقمية وتحليلية متقدمة. وانطلاقًا من “رؤية المملكة 2030” تبرز الحاجة إلى تسريع مبادرات التدريب المستمر، وربط التعليم العالي بمتطلبات الثورة الصناعية الرابعة، وتوسيع نطاق الشهادات المهنية في مجالات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات وأمن المعلومات. فالتكيف مع التحولات التقنية ليس خيارًا فحسب، بل أضحى ضرورة وجودية لضمان تنافسية رأس المال البشري السعودي في عالم سريع التغير. لهذا استثمرت المملكة في اتفاقيات جادة مع شركات عالمية لتبادل الخبرات وبرامج التدريب، مع التركيز على شهادات مهنية معترف بها دوليًا، مما يعزز مكانة المملكة كمركز إقليمي للتعليم التقني والابتكار. كما تم تفعيل الشراكات بين الجامعات السعودية ونظيراتها العالمية لاستقطاب الباحثين والأساتذة المتميزين. ولم يغفل صانع القرار السعودي دور القطاع غير الربحي. فقد ساعدت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية على تأسيس جمعيات متخصصة تسهم في مجالات اجتماعية وبيئية حيوية، متكاملة مع جهود القطاعين العام والخاص. إن الاحتفال بيوم العمل الدولي ليس مجرد احتفاءٍ تقليدي، بل هو تأكيد على القيم العميقة المرتبطة بالعمل كركيزة للكرامة والتنمية المستدامة. وكما قال الله تعالى: “هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها” (هود: 61)، وقال الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو: “العمل هو السبيل الوحيد لجعل الحياة محتملة”. ولهذا كله، يحق للموارد البشرية أن تكون ركيزة البناء الوطني، فهي اليد التي تبني، والقلب الذي يحلم بوطنٍ أقوى وأكثر ازدهارًا. إنهم الحنان المتدفق في عروق الأمة، ونغم التلاحم الذي يتردد في صدور الأجيال، وهم شعاع الأمل الذي يضيء دروب التقدم، لِيُزهر الوطن بعبق الإبداع، ويغفو على حلمٍ جميل، ويصحو على نفح الوفاء الذي لا يعرف الانكسار والاستسلام.