
كلما ذُكرت الكتب ذكر الجاحظ و هكذا فعنوان الكتاب كما تقول المقدمة مأخوذ من وصف الجاحظ الشهير الكتاب : “ومن لك بواعظٍ مُلْهٍ، وبزاجرٍ مغرٍ، وبناٍسك فاتك، وبناطقٍ أخرس. “ و يشرح المؤلف فيقول أن الكتاب ناطق مجازا إذ يفصح عما بين دفتيه من أفكار، و أخرس لأنه معدود من جملة الجمادات التى لا تنطق. و هذا كتاب يجتمع في موضوعه عن القراءة و الكتب مع كتب كثيرة غيره، و أكثر هذه الكتب تجمع أفكارا مما قرأ الكاتب، و لكن المؤلف هنا جمع لالئ من قراءاته الواسعة، ثم فرزها إلى مجموعات متجانسة، نظم من كل منها عقدا يزهو على جيد جميل. و على بوابة الكتاب كُتبت مقطوعة للمؤرخ البريطاني ماكولى “ و لو جعلنى إنسان أعظم ملوك الدنيا، و حبانى القصور و الحدائق، و أحسن الأطعمة و العربات، و أفخر الثياب و مئات الخدم و الحشم - على شريطة ألا أقرأ الكتب - لما قبلت أن أكون ملكا، و لاثرت أن أكون رجلا فقيرا في عُليةٍ و عندي مجموعة وافرة من الكتب، على أن أكون ملكا زاهدا في القراءة” يحدثنا الكتاب عن متعة القراءة التى فاقت كل متع الدنيا في حياة البعض، و عن اخرين تمنوا أن ينتقلوا الى العالم الاخر فيجدوا جنة مملوءة بالكتب، يقرأون ما فاتهم منها، كما يحدثنا عن مرضى تغلبوا على الالام الشديدة بالقراءة والكتابة، هذا بولس سلامة أجريت له تسعٌ و عشرون عملية جراحية، كلها فشلت في شفائه و في وقت لم تكن فنون طب التخدير تطورت لتحرره المريض من الألم، تغلب على ألمه بتأليف كتاب في الفلسفة. أما إبن قيم الجوزية فاستعان بالقراءة على الشفاء، رغم تحذيرات الطبيب، فكان الشفاء. تفسير ذلك أن متعة القراءة رفعت روحه المعنوية و نشطت مناعته حتى تغلب جسمه على المرض، أما المساجين فمنهم من وهبته القراءة أملا ساعده في التغلب على الاحباط و إصلاح نفسه، و رسمت له طريق الخلاص، بل و الإبداع و التفوق. كثيرة هي الحكايات عن أشخاص تركوا زوجاتهم في أول لحظة جمعهم بيتهم لينصرفوا للقراءة، وهذا واحدٌ منهم بحثت عنهم حماته فوجدته غافلا بالكتب عن عروسه، فندبت حظ إبنتها التى دخلت عروسا على زوجها لتجد بيت الزوجية حافلا بالضرائر. و اخر جاءت إليه زوجته و قد تهيأت لمؤانسته ، فلم تفلح في جعله يلتفت إليها، و هكذا. أميل شخصيا إلى الاعتقاد أن هذه حكايات مخترعة، فالناس تغرم بالحكايات، و إن صحت فهى تعنى أن خللا قد أصاب حياتهم فأضاعوا قدرتهم على التواصل الإنسانى، و أظن أن حكاية الضرائر قد اخترعها الرجال انتقاصا من النساء، و ربما كانت الحقيقة مختلفة، لا اتصور ان انسانا يعيش بين الكتب، لا ينقل سعادته بالأفكار و بالمؤلفين و أصدقاء الحرف إلى زوجته و أبنائه، فإن لم يفعل فهذا يعنى أنه لم ينتفع بما قرأ، أو أنه خشى إن تعجب زوجته بالكتب و المؤلفين تراه قزما بين كبار، ولذا حرم زوجته من مشاركته في كتبه، و رماها بما خاف منه على نفسه. يتحدثون كثيرا عن بعض من شغلهم الكتاب عن حياتهم، فأنساهم حظ جسمهم من الطعام و الشراب و الرياضة، و ظنى أنهم هنا يسيؤون إلى أجسامهم، و أحرى بهم صيانتها، حتى لا يصبحوا فريسة للأمراض، حب القراءة لا يجب أن يفقد صاحبه التوازن، نجيب محفوظ الذي أثرى المكتبة العربية لا يتخيل الحياة بغير الكتب، و لكن له في تنظيم حياته دقة عجيبة ، فهو يفرد للقراءة و الكتابة وقتا يصونه عن أي شيئ أخر، و لكن له مواعيد ثابتة للقيا الأصدقاء، و لو تتبعت أكثر أيامه لوجدته يغادر بيته الكائن على نيل العجوزة في ساعة محددة يوميا، يسير حتى يقطع أحد الجسور على فرع النيل إلى الجزيرة فيقطعها، حتى يصل إلى جسر اخر على الفرع الاخر في النيل فيقطعه إلى أحد ميادين القاهرة الرئيسة و منها إلى مقهى ريش، حيث يشرب فنجان قهوته متمهلا متأملا، ثم يعاود المشي إلى مكتبه فى جريدة الأهرام، أما وقت الكتابة و القراءة فهو مصون عن أن يأخذ منه وقتا للسفر، أو لأى أنشطة أخري، فلم يُعرف عنه أنه غادر القاهرة لغير قضاء الصيف في الإسكندرية، لم يركب طائرة أو باخرة في حياته إلا مرة أو مرتين، و لم يلب دعوة إلى مؤتمر، و استعاض عن ذلك بالقراءة و الكتابة. هناك من يقرأ ليقال قارئ، وهو يمر على الكتاب فلا يكتسب منه شيئا، وآخر يقرأ و يختزن الأفكار و لكنه لا يدخل بها تجارب الحياة، و لا يثريها بالخبرات و التأملات و تلاقح الفكر مع الفكر ليقدح زناد العقل فيفيد و يستفيد، و هناك من يسابق الآخرين في الحصول على الكتاب طازجا من المطبعة قبل أن تبرد أوراقه، ثم يخزنه في أثاث جميل يزين به جدران بيته، و لكنه أعجز من أن يزين به حياته و حياة الاخرين. و لا شك عندي أن القراءة لشغل الوقت أفضل من صديق السوء، و أفضل من جلسات الغيبة والنميمة، و الانشغال بحياة اللاعبين و الممثلين، و البحلقة في ما تعرضه الأسواق مما يجري له لعاب الكثيرين، و لكن القراءة للحياة و لتحصيل الحكمة، و لإغناء النفس، و الاستثمار في الحياة أولى و أكثر فائدة للنفس ، و خاصة إن كانت تشع بالخير على النفس و على الاخرين. هناك من القراءة ما تملأ عقل صاحبها بالغرور ليستقر في نفسه انه أرقى من الاخرين، علما و فهما، و قد يصبح ديكتاتورا يظن أنه مبعوث من الله ليقصر الآخرين على ما يريد مما يظن أن فيه الخير للجميع، حتى لو كلفه ذلك إن كان صاحب سلطة أن يطغى و يبغي، هتلر و ستالين كانا من أعظم القراء. و كذلك من الكتب ما أوقد شعلة العظمة في بلدان كأمريكا، و منها ما أسس لثورة اجتماعية، مثلا كتاب” كوخ العم توم “ الذي أدى إلى تحرير العبيد و من هذا وذاك أمثلة كثيرة ساقها المؤلف تستوقف كل قارئ. و يثير الكتاب قضايا أخري، فهل الكتاب بطبعته الورقية جُعل لكى يتم تداوله بين الناس أم أنه كالذهب و الألماس جُعل لكى يُكنز، ف يستمتع صاحبه بالإحساس بانه يستطيع العودة إليه متى شاء وأنى أراد. يطرح الكاتب أيضا قضايا كإعارة الكتب، و اداب التعامل معها، و بيعها و اهدائها، ثم يأخذنا إلى مسألة طريفة: هل هناك حدٌ في سرقة الكتب، أم أنها من العلم الذي هو في الأصل ملكية عامة للبشر؟ و في فصل بعنوان “ المنافرة” و يعنى بها المفاخرة يعقد الكاتب مقارنة موضوعية بين الكتاب الورقي و الكتاب الإليكتروني، و حسنات و عيوب القراءة من كل منهما، و كما هو متوقع من كاتب قضى اجمل عمره مع الكتاب الورقى، ينتهى الى التحيز للكتاب الورقى، باعتبار أنه أقرب للفهم، لا يأخذ من وقت قارئه الثمين وقتا في الحيل الإلكترونية. و قد تعاملت مع كليهما، و لا زال قلبى مع الكتاب الورقي، و عن تجربة أجد أن الاستعاضة بالكتاب الالكترونى عابرة للحدود في مجال تخصصى، فالأساس موجود عندى، و الجديد إنما يبنى على القديم المؤَسَس، فهو يكشف عن نقاط كانت غامضة و أبحاثا استجدت ليملأ فراغا في العلم أو يصحح خطأ، أو يعزز نتائج و قد تحدد بعض الفهم العام… إلخ، وكنت أشعر أحيانا بأن الكتاب الورقي أكثر فائدة، ثم اكتشفت اننى لا ألجأ للكتاب الإلكتروني إلا في الوقت الذي لا أجد فيه الكتاب الورقى، و انتهى إلى أن اقرأ الكتاب الاليكتروني بشكل متقطع تقتحمه قراءات متوالية لكتبٍ ورقية و لهذا لا استمتع بالقراءة من الكتاب الإليكتروني، و لكن حين تعاملت مع الكتاب الإليكتروني مثلما أتعامل مع الكتاب الورقى ، بمعنى أنني إذا قررت قراءة الطبعة الإلكترونية أعكف على الكتاب دون اقحام قراءات أخري، أجد نفس المتعة و الفائدة التى في الكتاب الورقى ، خاصة و أن التخطيط و التعليق على الكتاب الاليكتروني لا يشوه منظر الكتاب بل يزيده حسنا، و عندما أقرأ الكتاب الاليكتروني عازما أن أكتب عنه فإن وضع ملاحظات عن اماكن الأفكار المحورية يزيد من التركيز و يعظم من الفائدة، و لا أشك في أن المستقبل للكتاب الإلكتروني، لأنك تحمل مكتبتك التى تحوي آلاف الكتب معك أينما كنت، لقد أصبحت البيوت قليلة المساحة، تضيق عن المكتبات، كما اصبح العمر أطول ولكنه يقصر عن أن تقرأ كل ما تحب من كم الكتب الذي ينشر سنويا، و تستطيع أن تقرأ كتابا الكترونيا بغير لغتك الأم، و تجد معك مترجما لا تثقلك أوراقه بل يتطوع بالترجمة سريعا و بلا منة في عهد الذكاء الصناعي. و كذلك فإن حماية الغابات التى تقتطع أوراقها لصناعة الورق يساعد في حماية العالم من التلوث. كثير من كتب الطب تبيعك الكتاب الورقي، ومعه رابط تستطيع الحصول منه على نسخة الكترونية واحدة فقط تصبح مرجعك بعد أن تنتهى من الكتاب الورقى، و تغنيك عن تخزينه. و للكتب الالكترونية فوائد اخرى. أنا من بشر كًتب عليهم أن يقضوا العمر باحثين عن وطن، و يتحتم عليهم الانتقال دائما من مدينة إلى مدينة، و من بلد لبلد، و كم بكيت على كتاب اضطررت للاستغناء عنه مجبرا حين أنتقل من مدينة إلى أخرى، فنقل الكتب غير سهل، و وزن الورق يفوق وزن الملابس و الاثاث، و لذا فإن الكتاب الإلكتروني هو الحل السهل. و في المستقبل يغنى المؤلف عن دور النشر و منافذ بيع الكتب، فمن أراد أن يعتمد على تأليف الكتب لكى تسنده في حياة صعبه سيجد أن جهده يغنى الناشر و البائع و لا يعود عليه الا بالفتات، وعلى الأغلب فإن النشر الاليكترونى قد يوفر على القارئ و الكاتب، يدفع القارئ ثمنا أقل في الكتاب، و يحصل الكاتب على مردود مكتمل لا يذهب جله للناشر و البائع. كتاب جميل و هو ضمن كتب أخرى في موضوعه يستحق أكثر من قراءة، فهو مما يشار إليه بأنه “كتاب الكتب”، أجاد الكاتب فهد بن عسكر الباشا فيه أيما إجادة.