جمالية التناسي!

 مما يمكن توسيعه من المصطلحات الجرجانية ما وصفه عبد القاهر بتناسي التشبيه، فهذا التناسي طريقة في التلقي لا يقتصر على الصورة الشعرية، وكان يعني به عبد القاهر أن يذكر الشاعر في تشبيهه ما يجعلك تتناسى هذا التشبيه وكأنه حقيقة، وقد عالج هذا التناسي في الحذف أيضا، بتأكيده على ضرورة ألا تحضر المحذوف في ذهنك وأنت تقرأ البيان العالي ليتم الذوق وتكتمل شرائط الحسن. أما موضع توسيع هذا التناسي وتحويله إلى طريقة واسعة في التلقي فيظهر في قراءة الأدب المترجم، بحيث تقرأ النص المترجم دون أن تستحضر المترجم الوسيط، فإن ذلك أدعى إلى التذوق الكامل وإزالة أية واسطة بينك وبين روح مؤلفه الحقيقي، لكن ذلك مشروط بجودة الترجمة وثقتك أنّك بإزاء مترجم برتبة المؤلف، لتشعر أنك تقرأ النص الأصلي بلا وسيط. إن هذا التناسي الذي جعله عبد القاهر أداة من أدوات تذوّق البيان، سواء في باب التشبيه أو باب الحذف، من أنفع أدوات التلقي للبيان الإبداعي سواء كان على مستوى الجملة، أو على مستوى النص؛ فأنت باعتبارك قارئا تحتاج في السرد الروائي إلى تناسي التخييل لتكون بإزاء أحداث واقعية ملهمة، وفي الدراما تحتاج أن تتناسى الإنتاج لتستمتع بالمشاهد الدرامية، وكذلك في الترجمة تحتاج أن تتناسى الوسيط لتلتحم بروح النص من وراء اللغات. وعلى هذا النحو يمنح التناسي الفن جماليته ويجعله أكثر امتزاجا والتحاما بالواقع بحيث يبدو العمل الفني جزءا أصيلا لا معادلا رمزيا أو وسيطا هامشيا على عهدة المجاز.