الأولويات من التأسيس إلى الرؤية.

تمر الأمم بمراحل زمنية مختلفة، تحمل في كل مرحلة أولويات و تحديات تتناسب مع ظروفها التاريخية و الجغرافية و السياسية. و المملكة العربية السعودية، منذ تأسيسها على يد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -طيب الله ثراه- و حتى اليوم، شهدت تحولات كبرى جعلتها من أكثر دول العالم تميزًا في تحقيق التوازن بين الأصالة و الحداثة، بين الثوابت الوطنية و المتغيرات العصرية. لقد رسمت القيادة السعودية، عبر العقود، خريطة أولويات واضحة، تبدأ بتوحيد الأرض و الشعب، ثم بناء الدولة و مؤسساتها، ثم الانتقال إلى مرحلة التنمية الشاملة، و صولًا إلى التحول الاقتصادي و الريادة العالمية في ظل رؤية 2030. و في كل مرحلة، كان السياق الزمني يُحدد الأولويات، و كانت الإرادة السعودية تُحول التحديات إلى فرص، و المخاطر إلى إنجازات. المرحلة الأولى: التأسيس وتوحيد المملكة (1902-1953): عندما دخل الملك عبد العزيز الرياض عام 1902، كانت الجزيرة العربية تعيش حالة من التشتت و الضعف. و كانت الأولوية القصوى هي توحيد البلاد تحت راية واحدة، و هو ما تحقق بعد كفاح طويل، أُعلن فيه عن تأسيس المملكة العربية السعودية عام 1932. في هذه المرحلة، كان الهدف الأساسي هو ترسيخ الأمن والاستقرار، و بناء الهوية الوطنية الموحدة. و مع اكتشاف النفط عام 1938، بدأت بوادر التحول الاقتصادي، لكن التحدي الأكبر كان كيفية إدارة هذه الثروة لخدمة التنمية. و قد وضع الملك عبد العزيز الأسس الأولى للدولة الحديثة، من خلال إنشاء النظام الإداري و القضائي، و تعزيز العلاقات الدولية، مع الحفاظ على الثوابت الدينية و الاجتماعية. المرحلة الثانية: بناء الدولة و مؤسساتها (1953-1975): بعد وفاة المؤسس، تولى أبناؤه الملك سعود ثم الملك فيصل -رحمهما الله- مسؤولية قيادة البلاد في مرحلة جديدة، كانت الأولوية فيها تتمثل في تعزيز مؤسسات الدولة و تطوير البنية التحتية. في عهد الملك فيصل، شهدت المملكة نهضة تعليمية و صحية كبيرة، مع التركيز على السياسة الخارجية الفاعلة، حيث أصبحت المملكة صوتاً عربياً و إسلامياً مؤثراً. و كان التحدي الأكبر هو تحقيق التوازن بين التطور السريع و المحافظة على الهوية، و هو ما تحقق بفضل سياسات حكيمة ربطت بين الموروث الثقافي و متطلبات العصر. المرحلة الثالثة: التنمية الشاملة والطفرة الاقتصادية (1975-2005)؛ مع تولي الملك خالد ثم الملك فهد -رحمهما الله-، دخلت المملكة مرحلة “الطفرة” الاقتصادية، حيث تم استثمار عوائد النفط في مشاريع تنموية ضخمة، مثل الجامعات، و المستشفيات، والطرق، و الجسور، والمدن الصناعية. في هذه المرحلة، برزت أولوية التنويع الاقتصادي، و إن كانت البلاد لا تزال تعتمد بشكل كبير على النفط. كما شهدت المملكة تطوراً في السياسة الخارجية، مع دور محوري في القضايا العربية و الإسلامية، مثل دعم القضية الفلسطينية، و التصدي للغزو العراقي للكويت. لكن التحدي الأكبر كان في كيفية إدارة الثروة النفطية دون إهمال القطاعات الأخرى، و هو ما أدى لاحقاً إلى الدعوة لضرورة الإصلاح الاقتصادي. المرحلة الرابعة: الإصلاحات و التوجه نحو المستقبل (2005-2015): في عهد الملك عبد الله -رحمه الله-، اتخذت المملكة خطوات جادة نحو الإصلاح، مع التركيز على التعليم العالي و البحث العلمي، حيث تم إنشاء مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية و المتجددة، و مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، بالإضافة إلى جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست). كما شهدت هذه الفترة بدايات تمكين المرأة، مع افتتاح جامعة الأميرة نورة، و إتاحة الفرص لها في مختلف المجالات. و كان التحدي يتمثل في كيفية مواكبة العولمة مع الحفاظ على القيم، و هو ما تم التعامل معه بحكمة. المرحلة الخامسة: الرؤية والتحول الاستراتيجي (2016 - حتى اليوم): مع إطلاق رؤية 2030 في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، و ولي عهده الأمير محمد بن سلمان، دخلت المملكة مرحلة التحول الأكبر في تاريخها، حيث أصبحت الأولوية القصوى هي بناء اقتصاد غير نفطي، من خلال رفع كفاءة القطاع الخاص، و جذب الاستثمارات، و تطوير الصناعات المحلية، و السياحة، و الترفيه. تم إطلاق مشاريع عملاقة مثل “نيوم”، و”ذا لاين”، و”القدية”، و”البحر الأحمر”، و “بوابة الدرعية”، و “المكعب” ، و الحدائق العالمية مثل “حديقة الملك سلمان” مما يعكس رؤية طموحة تجعل المملكة مركزاً عالمياً للابتكار و الاستدامة. كما تم تعزيز الحوكمة، و مكافحة الفساد، و تمكين الشباب و المرأة، حيث وصلت نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل إلى مستويات غير مسبوقة. التحدي اليوم هو كيفية تحقيق هذه الأهداف الطموحة في وقت قياسي، مع الحفاظ على المكتسبات الوطنية، و هو ما يتحقق بفضل القيادة الحكيمة و الإرادة الشعبية الواعية. لقد نجحت المملكة العربية السعودية، عبر تاريخها الممتد، في تحديد أولوياتها بدقة، وفقاً للسياق الزمني لكل مرحلة. من التوحيد إلى البناء، ثم التنمية، فالإصلاح، وصولاً إلى الرؤية المستقبلية، كانت المملكة دائماً مثالاً للدولة التي تحترم ماضيها، و تعيش حاضرها، و تصنع مستقبلها. اليوم، نحن أمام تحول تاريخي، تقوده رؤية 2030، التي تجسد أحلام شعب طموح، و قيادة واعية شجاعة، تؤمن بأن المستقبل لا يُنتظر، بل يُصنع. و في كل مرحلة، تثبت المملكة أنها قادرة على تجاوز التحديات، و اقتناص الفرص، لتظل دائمًا في مقدمة الأمم.