الاستلزام الحواري..!

تكونت التداولية في الأساس على فكرة أن هناك اختلافا بين ما يقال وما يُقصد؛ إذ إن «ما يقال» هو ما تعنيه الكلمات ظاهريا، أما «ما يقصد» فهو المعنى الضمني، وهو المعنى الذي يستفاد من الخطاب ولا تعبر عنه الألفاظ المستخدمة في الخطاب. وقد لاحظ غرايس أحد اللغويين الذين أسهموا في تطور البراغماتية اللغوية أنه لا يمكن الوصول إلى المعنى الضمني، أو قصد المتكلم من الخطاب إلا من خلال صياغة قواعد حوارية، وضوابط يلتزم بها طرفي الحوار أي المتكلم والمتلقي، والتي من شأنها أن تنظم عملية التواصل وتضمن نجاحه، وانتهاك أيا من هذه القواعد يولد ما أسماه غرايس بالاستلزام الحواري. وبناء عليه قام غرايس بصياغة أربعة قواعد أساسية أدرجها ضمن مبدأ عام يسمى بـ مبدأ التعاون؛ وهذه القواعد هي كالآتي: قاعدة الكم، قاعدة الكيف، قاعدة الطريقة، قاعدة المناسبة.» أما قاعدة الكم فمفادها أن ينقل المتكلم إلى المتلقي القدر المطلوب من المعلومات، حسب مقتضيات السياق، دون أن يزيد عليه أو ينقص منه. وأما قاعدة الكيف مفادها أن ينقل المتكلم إلى المتلقي المعلومات التي يعتقد أنها صحيحة ولا كذب فيها، ولديه دليل عليها. وأما قاعدة الطريقة مفادها أن ينقل المتكلم إلى المتلقي المعلومات بوضوح وإيجاز، ويتجنب الغموض واللبس والإطناب. وأما قاعدة المناسبة فمفادها أن ينقل المتكلم إلى المتلقي معلومات ذات علاقة بالموضوع. وفيما يلي مثالا يوضح مدى التزام طرفي الحوار بقواعد مبدأ التعاون التي أرساها غرايس من خلال حوار دار بين أستاذ جامعي وطالب في قسم اللغويات في إحدى الجامعات. مثال/ الطالب: بروفيسور، متى سيعقد امتحان مقرر تحليل الخطاب؟ الدكتور: يوم الاثنين القادم. إذا نظرنا إلى هذا الحوار الذي دار بين الأستاذ الجامعي والطالب سنجد أنهما قد تعاونا بشكل واضح من خلال جواب الأستاذ الذي استخدم عددا من الكلمات لا يزيد ولا ينقص عن القدر المطلوب (الكم)، وكان صادقا فيما يقول (الكيف)، كما أنه أجاب بكلام مرتبط ارتباطا وثيقا بموضوع الحوار (المناسبة)، وجاء هذا الجواب في أسلوب واضح ليس فيه أي غموض (الطريقة). ومن ثم نستنتج أن هذا الحوار خلا من أي خرق أو انتهاك لقواعد التعاون، أو وجود أي استلزام حواري الذي من شأنه أن يؤدي إلى بذل جهد تأويلي من قبل المتلقي للوصول إلى قصد المتكلم. وإذا ما تطرقنا إلى الحوارات اليومية داخل بعض المجتمعات ، سنجد أن ما يميزها عدم التزام الأطراف المشاركة في الحوار، غالبا بمبدأ التعاون، بل يقوموا بخرقه مما يؤدي إلى وجود معنيين: معنى مباشر، ومعنى ضمني؛ فالمعنى المباشر هو المعنى المعجمي مضافا إليه العلاقات النحوية، أما المعنى الضمني فهو المعنى الذي يستلزمه الحوار بين متكلم ومتلقٍ في سياق معين، وفيما يلي مثالا يوضح أن خرق أي من القواعد الحوارية لمبدأ التعاون يؤدي بدوره إلى الاستلزام الحواري، حيث دار حوار بين اثنين من الأصدقاء، هما محمد وعلي عن صديقهما سعيد الذي يعمل حاليا في أحد البنوك. المثال: محمد: كيف حال سعيد في عمله الجديد؟ علي: ليس سيئا، على ما اعتقد إنه يحب زملاءه في العمل، ولم يسجن بعد. إذا أمعنا النظر في الحوار السابق، سنجد أن (محمد) في هذه المرحلة من الحوار من شأنه أن يتساءل إلى ما يقصد (علي) أن يرمز من قوله: إنه لم يسجن بعد. لقد حدث هنا خرق لقواعد التعاون مما أدى إلى وجود استلزام حواري يجب على المتلقي (محمد) بذل جهد تأويلي من أجل الوصول إلى قصد المتكلم (علي)، سنلاحظ من الحوار السابق أن (علي) قد أنجز فعلين لغويين اثنين فعلا لغويا مباشرًا، وهو الإخبار بأن (سعيد) يعمل في البنك بشكل ليس سيئا، وفعلا لغويا غير مباشر، وهو أن (سعيد) شخص غير أمين وليس منضبطا، حيث إنه من النوع الذي قد يكون متورطا في إغراءات عمله، وأن زملاءه في العمل متورطون وما إلى ذلك. كيف استطاع (محمد) هنا تفسير هذا رغم أن (علي) لم يقل هذا صراحة؟ إن المعنى المباشر لكلام (علي) عن صديقه (سعيد):إنه يحب زملاءه في العمل، ولم يسجن بعد ليس إجابة عن سؤال (محمد) كيف حال (سعيد) في عمله الجديد؟ ولكن (علي) صاغ إجابته بطريقة تتطلب من (محمد) أن يستنتج أن (علي) قصد أن يقول شيئًا أكثر، وهو ما لم يعبر عنه في كلماته صراحة، وهو أن صديقهم (سعيد) لا يستطيع مقاومة إغراء المال، وقد ينحرف عن الصراط المستقيم ويُقبض عليه متورطا في أعمال فساد مشبوهة قد تؤدي إلى سجنه، ومن ثم فهو غير أمين، وسيفصل من عمله قريبا، وهذا هو المعنى الضمني المقصود. كما يجب الإشارة في هذا السياق إلى أن أحد العوامل الرئيسة التي ساهمت أيضا في وصول (محمد) إلى هذا الاستنتاج هو وجود خلفية معرفية مسبقة بالمرجع، وهو (سعيد) التي استند إليها في تفسير كلام صديقه (علي) بشكل صحيح. يتضح مما سبق أن غرايس انصب تركيزه في صياغته لهذه القواعد على كيفية التعاون بين طرفي الخطاب من أجل تحقيق التواصل الناجع، ولم يقم بصياغة مبدأ يتناول كيفية التعامل بينهما. وبناء عليه حاول بعض الباحثين في علم اللسانيات استكمال ما قام به غرايس، والاهتمام بالعلاقة بين طرفي الخطاب من خلال التأسيس لمبدأ يسمى بـ مبدأ التأدب أو نظرية التأدب. ———— اعتمدت المقالة على مجموعة من المراجع، أهمها: * حسنين صلاح الدين صالح، الدلالة والنحو، مكتبة الآداب، القاهرة، ط1، 2005م * الميساوي (خليفة) : تحليل المحادثة في ضوء نظرية التأدب اللسانيات العربية، مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز.