سحر اللحظات

أحيانًا، تكفي سحابةٌ شاردةٌ في السماء لتوقظ فينا مشاعر غزيرة يصعب تفسيرها، ولم نكن نتوقعها. ولعل للجانب النفسي دورًا خفيًّا في هذا التأثير، تمامًا كما تفعل الطرقات القديمة المتعرجة، وشبابيك المنازل العتيقة، وضوء خافت بالكاد نراه يوميًا من بعيد؛ فتلك المشاهد تلتقطها الروح قبل أن تراها العين. وقد أبرزت لوحات الفنانين وعدسات المصورين ألوانًا من هذه اللحظات المثيرة التي تهز أوتار الشعور برهافة لا تخطئها القلوب. كثيرًا ما أجدني مشدودًا إلى صوري القديمة مع الرفاق، رغم بساطتها وتأثرها بعوامل الزمن. كنا نلتقطها بين أزقة حارتنا القديمة وأمام جدران المنازل، وأكثرها كان في ظلال البساتين، تحت النخيل الباسق، وأشجار السدر، والليمون، واللَّيم، والجميز؛ والأخيرة تشبه فاكهتها إلى حد بعيد التين الشائع، وثماره تنمو في مجموعات متصلة باللحاء. وكان القرب من تلك الأشجار والحقول، كما هو مريح للنفس، قد أنبت شعرًا وأمثالًا وكسرات يرددها الناس حتى اليوم. وقد قيل في الليم والليمون: الليم يشكى على الليمون قطف النوامي سَقَمْ حالي العود مبري وانا المسقوم يا رب تشفق على حالي كما كنا نجد فرصة لالتقاط الصور خلال طلعاتنا البرية، وكانت عن طريق “كاميرا فورية” تظهر الصور مباشرة، بخلاف عدسة الجوال الذكية التي تخزن عشرات الصور. يومها، كانت البراءة تسبق عدساتنا، وندر أن تجد صورة لا نحدق فيها بالكاميرا أو نقف أمامها كأعمدة إنارة! اللافت أن معظم تلك الصور كانت تُلتقط بجانب الأشجار أو قرب صنبور مياه بركة المزرعة؛ ولعل ذلك يعود إلى شعورٍ فطري يجعل الإنسان ينجذب نحو المشاهد الطبيعية التي يألفها. ولا يُستهان بتأثير الطبيعة؛ فقد أظهرت الدراسات أنها قادرة على تخفيف ما يكابده الإنسان من هموم وآلام. يقول الشاعر المصري محمود غنيم: جلستُ على بساطٍ من رمالِ خلالَ العُشبِ والماءِ الزُّلالِ وقد رقَّ النسيمُ، فكانَ أشهى إلى قلبِ المُحبِّ من الوصالِ طيورُ الأيكِ تصدحُ عن يميني وماءُ النهرِ يهمسُ عن شمالي تلك المشاهد العابرة -طريق قديم، بستان تفوح أرجاؤه بالنوامي، أو نافذة منسية عشعش فيها الحمام- ليست مجرد صور تمر، بل أصداء خفية لحنين الإنسان الأبدي إلى أرضه وسمائه؛ رسائل تهمس بأن الجمال كثيرًا ما يختبئ في التفاصيل المنسية.