
من المريح، من الممتع، من المؤنس أن تلقى الكاتب يتحدث من طينته، يتحدث عن بلده وقريته وبيته، عن النخلة القديمة الضاربة الجذور في فناء بيته، عن الجيرة والإخوة والأم الضاحكة، عن النيل والطمي والسواقي وأحلام الصبا، فإذا أضيفت إلى هؤلاء لغة عربية جزلة عذبة سهلة تجد نفسك في الجنة! «عدتُ وبي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل، ولم يمض وقت طويل حتى أحسستُ وكأن الثلج يذوب في دخيلتي فكأنني مقرور طلعتْ عليه الشمس». عجيبٌ كيف لصفحات طوال أن تعدو دون أثر وكيف لكلمة واحدة، لسطر واحد، لمعنى بمفرده أن يؤثر فيك كل الأثر، يغرس شجرة مثمرة تُينع حقولًا ذهبية في حشاشة روحك، تُينع أزمنة وإنسيّا، تُينع قصصًا وحكايا لا تَفنى! هكذا كل كلمة في رواية الطيب صالح تدعوني لأقف دونها تناديني أن تأمّلي مليّا، تناديني لأبقى وأنصت إلى ثرثرتها هديرًا في أذني. وفجأة صرتُ في قرية في ريف السودان القصيّ ، فجأة وجدتُني عند منحنى النيل ذاك، والرجال يقلعون ويحصدون ، والنّسوة يغدون ويرحنْ، والأطفال يركبون الحمير ويلهون بغير اكتراث، فجأة لقيتُني مع البطل الشاب الذي أجهل اسمه، أسْري معه في جوف الليل المدلهمّ، أخطر معه بين حقول القرية الساكنة وأفترش البقعة الطينية على ثغر النيل وأصغي لخرير المياه يهدهدني وللكون بكل دماء غروبه ينثال في جوفي والصمت ينتشر كالعطر في الهواء، فجأة صارت السودان جزءًا مني. وكعادة القصص الجميلة المحكيّة بكلمات أجمل وأعذب ما تكون لم أكن أريدها أن تنتهي، لم أرد مغادرة القرية النيلية الخضراء الرقيقة، لم أرد مفارقة أناسها الطيبين بوجوههم الضاحكة وسواعدهم المكافحة، لم أشأ بالأخص وداع بطلنا برغم قصر معرفتي به، برغم أن الكاتب أخفى حتى اسمه، غير أني أحببت وجوده وذكاءه وروحه التي بطريقة تشبه المعجزة جعلها الكاتب تحاكي روح كل واحد مناّت كل قارى عبر بالرواية وتعلّق بها. «فنّ تدمير الذات»! قد يكون هذا هو محور الرواية القصيرة، كيف قد يُسبغ عليك بكل النعم والهبات التي من شأنها أن ترفعك وتأبى أنت إلا أن تخلد إلى الأرض كالبهائم، لا انتفعت ولا نفعت، وقد كان بيدك أن تفعل كليهما! مصطفى سعيد كان الوجه الأبرز في الحضور الذين استقبلوا بطلنا العائد لتوه من إنجلترا، بعدما أتم دراسته وحصل على الدكتوراه في الأدب الإنجليزي ، القرية بسيطة متواضعة الطموح والعيش، والابن العائد بشهادة كبرى يمثل نصرًا مؤزّرا، أوروبا، ذاك العالم الضبابي الأبيض البارد وساكنوه من ذوي البشرة الحليبية البيضاء والعيون الزرق والخضر والأفواه التي ترطن بالأعجمية ، أين كل ذلك من اللون الأبنوسي أو البرونزيّ الخلاب؟ أينهم من عطر الأرض الخصبة الحبلى بالثمار والقمح وجذور النخيل السامقة؟، هكذا يستقبله الأهالي بفرح وترحاب ليلاحظ البطل الوجه الغريب الأوحد بينهم، ذو قسمات وسيمة وعين حادة فيها أثر دائم من سخرية خبيئة، هذا هو مصطفى سعيد، الذي يلحّ البطل على معرفة قصته لتصبح هاجسًا وشبحًا يطارده ما أقام في هذه الأرض، مصطفى كان نابغة قومه، كل الدراسات سهلة يسيرة، كل الطرق مذلّلة بلا عراقيل، ويسافر للقاهرة في منحة، ويُبتعث إلى لندن حيث تقع المآسي واحدة تلو الأخرى، «إننا في الحقيقة نعجب كيف لرجل ذكيًّا كهذا أن يكون غاية في الغباء، إنه منح قدرًا عظيمًا من الذكاء ولكن حُرم الحكمة». خواطر تنصهر في حرارة الشمس ورمال الصحراء، أفكار تنهمر في الرأس كما يهمي المطر دون رحمة، مفارقات بين الغرب القصي والشرق الأدنى، حديث عن النساء اللواتي كنّ والأزواج الذين رحلوا والحلقات الصغيرة تدور دائرتها في غرفة الجد المعمّر، حديث عن السّاسة الذين يجتمعون في غرف من الرياش والرخام والمرمر ليناقشوا شؤون الفقراء ويتفق الجمع على العلم وعلى الهبات وعلى الزرع ثم ينفضّوا ويعود كلّهم إلى شؤونه ويعود الفقراء إلى الزاوية غير مكترَث لأمرهم! الأرض ثم الأرض فالأرض والحرث والزرع والدخان ومواسم الحصاد ومواسم البذر، هذي الأرض التي مالبثنا نرتوي من ماء صدرها، هذي الحبال الممدودة بيننا لا تنقطع قط، منها نجيء وإليها ننتهي ونذوب بذورًا للحصاد القادم، مصطفى سعيد أضاع نفسه واستسلم لشهواتٍ أرضية، ثم عاد إلى السودان ورستْ به السفينة حيث هذه القرية الوادعة المطمئنة فدفن ماضيه وتزوج وأنجب وحاول النفع فيما بقي له من عمر ما استطاع، تتحدث الرواية عن نساء القرى المغلوب على أمرهن، «المرأة للرجل والرجل للمرأة، هكذا كانت الأحوال وهكذا ستكون»، أرملة مصطفى أبت الزواج من بعده ولمّا أجبروها غرست السكن في قلبها وأخذت على عاتقها مهمة الانتقال إلى عالم جديد لا يمكن لهم أذيتها فيه، ويرمونها بالجنون كما سبق ورموها بالعقوق فيبكي البطل «حُسنة لم تكن مجنونة كانت أعقل نساء الأرض أنتم المجانين! حُسنة لم تكن مجنونة»، ويشتم تردده وضعفه وجبنه، ويمد إصبعه متهمًا «أنتم المجانين»! ما هذه العلاقة التي تربط اسم مصطفى سعيد بالموت؟ كل الفتيات اللواتي عشقنه متن، كل الرجال الذين صادفوه ذابوا زيفًا، كل القصص التي اختزلها رحلت معه، ويُغرق البطل همومه وقلبه المثقل في النهر الواسع، النهر الوفيّ النهر البعيد عن الناس وعن الأرض وعن سواقي المياه،»إنني أقرر الآن أن أختار الحياة، لا يعنيني إن كان للحياة معنى أو لم يكن لها معنى، وإذا كنت لا أستطيع أن أغفر فسأنسى، وسأحيا بالقوة والمكر». الطيب صالح ولد في قرية على ضفاف النيل، وعاش حياته يتنقل بين الشرق والغرب، ما بين السودان وبريطانيا فقطر فالسودان، رحلة طويلة بخيطِ حكاية طويل وعشرات الوجوه ومئات القصص، هكذا يُولد الحكّاء بداخله، هكذا ينسج خيوط هذه القصة، خليط من الهواجس والندم وملح الأرض وحب الوطن وقوة فلاحيه البسطاء، خليط من وجه الاستعمار الأوروبي الذي يعتصر الخير من بلاد المشرق ويذرها قاعًا صفصفا! حبّ وحقد وخطايا ودموع وذكريات، العجين المثالي لتختمر فيه الحكايات!