ماريو فار غاس يوسا..

رائد الأدب اللاتيني. 

منذ ظهوره في ستينيات القرن العشرين، وحتى رحيله في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، ظل ماريو فارغاس يوسا علامة فارقة في الأدب العالمي، وصوتًا نقديًا لا يلين في وجه السلطوية، والاستبداد، وتواطؤ الصمت. هو من أولئك الكتّاب القلائل الذين لم يقنعوا بأن يكونوا رواة للحكايات فقط، بل مثقفين عضويين يشتبكون مع أسئلة العصر، ويعيدون تعريف دور الأدب كمساحة للمعرفة والمقاومة في آنٍ واحد. وُلد يوسا عام 1936 جنوب البيرو، وسط بيئة عائلية مفككة، غاب فيها الأب حضورًا وسلطةً، قبل أن يعود لاحقًا بشكل مفاجئ، ليعيد تشكيل عالم الطفولة المرتبك. عاشت والدته لسنوات تقنعه أن والده قد مات، لتنكشف الحقيقة بعد نحو عشرة أعوام. ذلك اللقاء العاصف مع الأب، الذي رفض ميوله الأدبية وفرض عليه الالتحاق بمعهد عسكري صارم، مثّل جرحًا نفسيًا عميقًا، سيكون له أثر مستديم في مسيرة يوسا الروائية. هذا التحوّل المبكر من عالم الحلم إلى واقع القمع والسلطة كان الشرارة التي أطلقت يوسا إلى مجاله الأثير في تفكيك بنية السلطة من خلال الأدب. فجاءت روايته الأولى المدينة والكلاب (1963) بمثابة تفجير أدبي كشف عن الوجه المظلم للمؤسسة العسكرية في بيرو، وأثار جدلاً واسعًا بلغ حدّ إحراق الرواية علنًا في ساحة الأكاديمية العسكرية. أُنتج فيلم مقتبس عنها عام 1985، من إخراج فرانسيسكو لومباردي، وقد أثار جدلاً كبيرًا كما الرواية. أظهر الفيلم المعاناة النفسية والعنف والذكورة الهشة داخل المعهد العسكري. تبلور الصوت السردي: من الواقعية النقدية إلى المختبر التاريخي في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، بزغ نجم ما عُرف بـ”الانفجار اللاتيني”، وهي موجة أدبية قدّمت للعالم أسماء مثل ماركيز، بورخيس، كورثاثار، وكارلوس فوينتس. وسط هذا الحراك، كان يوسا يقف على ضفاف مغايرة، لا ينسج حكايات غرائبية، بل يشتغل على البنية العميقة للواقع، ويفكّك علاقات القمع والتواطؤ داخل المجتمع. في حديث في الكاتدرائية (1969)، وهي واحدة من روائعه، يتحوّل الحوار البسيط بين صحفي وسائق تاكسي إلى شيفرة سردية تستبطن تاريخ بيرو تحت حكم أودريا، وتطرح أسئلة مقلقة عن الحرية، والخذلان، وتآكل الأمل. يوسّا لم يكن مهووسًا بالزمن السياسي فقط، بل بالزمن التاريخي أيضًا، وقد تجلّى ذلك في روايته الملحمية حرب نهاية العالم (1984)، التي تعيد تركيب انتفاضة دينية اجتماعية في البرازيل نهاية القرن التاسع عشر، عبر شبكة من الأصوات السردية المتعددة، مستفيدًا من تقنيات السينما والمسرح والصحافة. هكذا يتحول القارئ إلى شاهد على ولادة العنف من رحم الإيمان، وانهيار اليوتوبيا تحت ضغط الجيوش النظامية، في مشهدية سردية تجمع بين التراجيديا والجدل الفلسفي. الرواية أداة مقاومة ربما كانت حفلة التيس (2000) ذروة المشروع السردي عند يوسا، حيث قدّم فيها معالجة فنية دقيقة لبنية الديكتاتورية، من خلال تتبع الأيام الأخيرة لحكم رافائيل تروخيو في الدومينيكان. الرواية تندمج فيها الوقائع التاريخية مع الغوص في النفس البشرية، حيث يتقاطع صوت الديكتاتور العجوز مع ضحاياه، ومع الجيل الجديد الذي لا يزال يحمل ندوب القمع. لم تكن هذه الرواية درسًا في التاريخ، بل تشريحًا حسيًا للعقل السلطوي، وقدرته على تدجين الأفراد وتفريغهم من المعنى. في هذا العمل، تتجلى عبقرية يوسا في قدرته على ملامسة التجربة الإنسانية من الداخل، وفضح الآليات التي تجعل من الطغيان منظومة حياتية لا يشعر بها الأفراد إلا بعد فوات الأوان. أُنتجت الرواية كفيلم إسباني-بريطاني عام 2005، أخرجه لويس يوسيرا، وقامت بدور البطولة الممثلة الأمريكية إيزابيلا روسيليني. وقدّم الفيلم معالجة سياسية لافتة، رغم صعوبة تكثيف النص الروائي الثري إلى صورة بصرية. الميدان السياسي لم يكتفِ يوسا بكتابة الروايات فقط، بل خاض معترك السياسة مباشرةً. في الثمانينيات، وبعد خيبة الأمل من التجربة الكوبية، أعلن انقلابه على الأحلام اليسارية، وتحوّل إلى داعية لليبرالية الديمقراطية، مما أثار حفيظة رفاق الأمس. ترشّحه للرئاسة عام 1990 ضد ألبرتو فوجيموري كان لحظة فاصلة في مسيرته، انتهت بهزيمته، ولكنها فتحت الباب أمام مراجعة شاملة لتجربة المثقف في مواجهة آليات الشعبوية السياسية. في مذكّراته السمكة في الماء (1993)، قدّم يوسا سردًا شفافًا عن تلك المرحلة، كاشفًا عن الصراع بين المثال والواقع، وبين الأخلاق والسياسة. ومنذ ذلك الحين، تحوّل إلى “ضمير نقدي” عبر مقالاته الأسبوعية التي لم تتوقف، مهاجمًا التطرف والشعبوية والاستبداد، أينما وُجدت. الخلاف مع ماركيز: صراع مدرستين أم كسرٌ للودّ؟ لا تكتمل سيرة يوسا من دون التوقف عند خلافه الشهير مع غابرييل غارسيا ماركيز. كانت صداقتهما من أقوى الروابط الأدبية في القارة اللاتينية، لكنها انتهت فجأة بلكمة وجهها يوسا لماركيز عام 1976 في أحد عروض السينما، ظل سببها غامضًا لعقود. هذا الصدام، رغم طابعه الشخصي، عكس أيضًا خلافًا فكريًا أعمق: ماركيز الذي كان يميل إلى الواقعية السحرية ويرى في كاسترو زعيمًا للثورة، مقابل يوسا الواقعي النقدي، الذي اعتبر أن السرد يجب أن يكون أداة لفضح البنى القمعية لا لتجميلها. من ثيرفانتس إلى نوبل إلى الأكاديمية الفرنسية حظي يوسا باعتراف عالمي واسع، فقد نال جائزة ثيرفانتس عام 1994، ثم نوبل للآداب في 2010، والتي جاء في حيثياتها أنه “أعاد رسم خريطة السلطة ومقاومتها في الأدب الحديث”. وفي عام 2021، أصبح أول كاتب غير ناطق بالفرنسية يُنتخب عضوًا في الأكاديمية الفرنسية، في حدث غير مسبوق، يكرّس مكانته ككاتب عالمي يتجاوز حدود الجغرافيا واللغة. هذه التكريمات لم تكن نهاية لمسيرته، بل تأكيدًا على أن الأدب، حين يكتب بضمير إنساني ناقد، يمكن أن يكون مرآةً عالميةً للحرية. يوسّا لم يكن كاتبًا محايدًا، بل ضميرًا يقظًا يرفض الصمت. في زمن الانحيازات المريحة، آثر أن يكون “صوتًا مزعجًا”، يطرق على أبواب المسكوت عنه. لقد أعاد الاعتبار للرواية بوصفها ساحة اشتباك بين الإنسان والسلطة، بين الفرد والجماعة، بين الذاكرة والتاريخ. تنوعت أعماله بين الرواية، والمقال، والمسرح، والنقد، ولكن القاسم المشترك بينها جميعًا هو سعيه نحو فهم العالم، لا الهروب منه. لم يكن يوسا يكتب ليصف، بل ليكشف، ليحاكم، ليسائل. ولذلك ظلّت نصوصه تحتفظ بمصداقيتها   حتى مع مرور الزمن. ضد النسيان برحيل ماريو فارغاس يوسا، يفقد العالم روائيًا بحجم قارة، وضميرًا لا يقبل الترويض. لكنه ترك إرثًا من النصوص التي لا تموت، لأنّها كتبت من قلب التجربة الإنسانية، وبعين لا تنام أمام الظلم. سيظلّ صوته حاضرًا كلما رُفعت راية الحرية.