
من طبيعة الانسان أن يحن الى ماضيه, حين يتذكره , بشكل أو بآخر, يتذكر ذلك الماضي الذي ولى خلال حاضره الذي يعيش فيه , ويستشرف مستقبله, في الوقت ذاته الذي قد يعيش خلاله العوالم الثلاثة (الماضي والحاضر والمستقبل) في آن واحد, دون أن يكون هناك تناقض ينفي علاقة أحد هذه العوالم بالآخر! فالأول منها يعتمد على (الذاكرة) واسترجاعها, والثاني (حسي) مباشر يعتمد على المعايشة الفعلية للحياة على أرض الواقع, بينما الثالث منها (غيبي) ومتخيل , لا يمكن الجزم به. وفي الوقت الحاضر – خاصة العقد الأخير من الزمن – ازدهر (أدب السير) بشكل لم يسبق له مثيل, حتى استثمر كثير من كتاب السرد عنصر الفضاء الواسع لهذا اللون الأدبي وما له من مجال رحب فضفاض, لا يتوقف عند زمان ولا مكان معين. وقد تمثل لنا ذلك في كثير من الأعمال السردية أو القصصية التي صدرت مؤخرا , والتي اتخذت من أدب السيرة مسرحا لها, وكانت لها أصداء واسعة , وردود فعل متباينة من قبل المتلقين بوجه عام , والمختصين بوجه خاص. وبين يدي الآن في هذه القراءة رواية (زرع النشمي) للكاتب السعودي / عبد القادر سفر حمدان التي صدرت حديثا عن (دار الرائدية) هذا العام كواحدة من الأعمال السردية التي جعلت من (السيرة الذاتية ) مرتكزا لها. وهي أول عمل سردي يصدر للأستاذ عبد القادر, الذي عُرفَ بتجربته الإبداعية كشاعر على مدى زمني طويل , أصدر خلاله بعضا من أعماله الشعرية التي ينتمي معظمها للشعر الحديث, شكلا ومضمونا, سواء كان عموديا أو تفعيليا, أو كان مما ينتمي الى ما يسمى بـ (قصيدة النثر). يحسب لرواية (زرع النشمي) أنها رواية (نوستالجية) تتشبث بالماضي البعيد , وتحن اليه , ليس بهدف العودة اليه , لأن ذلك في عداد المستحيل , ولكن بهدف استعادة قراءته والتفكر فيه مجددا, علاوة على كونها رواية (انسانية) تشير الى مبادئ وقيم انسانية سامية ,وعادات وتقاليد اجتماعية فاضلة لمجتمع (القرية) وطيبته وبساطته وهدوئه في الزمان السابق , في مقابل انحسار هذا العالم تدريجيا مع مرور الزمن أمام تمدد مجتمع (المدينة) وضجيجها وحياتها الصاخبة , وأساليب العيش المعقدة فيها في الوقت الحاضر كما هو معروف. لكن بالرغم من هذا كله فإنني أعتقد أن (زرع النشمي) قد عانت – الى حد ما – من احتشاد فصولها ومشاهدها بكثير من الشخصيات الثانوية , أو بعض الشخصيات الهامشية التي كانت ذات حضور باهت , أو ربما كانت ذات أدوار غير مكتملة , بحيث كان من الممكن الاستغناء عنها تماما , دون أن يؤثر ذلك على البناء السردي والفني المتكامل للعمل ككل. فعلى سبيل المثال فقد أورد الكاتب أثناء سرده للأحداث مجموعة كبيرة من الأسماء لشخصيات ثانوية أو هامشية, بعضها كان يظهر حينا فجأة ثم يختفي حينا آخر بشكل مفاجئ أيضا, دون أن يكون هناك سبب واضح في ظهور مثل هذه الشخصيات واختفائها على هذا النحو المحير. ولذلك فانه يمكنني أن أصف هذه (الحالة السردية) التي تنتاب (زرع النشمي) بين الحين والآخر وعبر امتداد صفحاتها الطويل بأنها (متاهة السرد) حيث أقصد بهذا الوصف – تحديدا – متاهة تلك الشخصيات الهامشية أو الاضافية , الزائدة عن الحاجة اليها , وحيودها عن المسار العام للحدث الروائي وتفاصيله , وبعدها عن التأثر الفعلي به , أو التأثير فيه ان صح التعبير, بخلاف تلك الشخصيات الرئيسة تماما, التي كان لها دور واضح في بناء الحدث السردي وتحريكه والتفاعل المباشر معه من بداية القصة حتى نهايتها. وهي كلها شخصيات هامة , عانت كثيرا من البحث عن الذات , والتمزق الاجتماعي , والتغرب عن الديار والبعد عن الأهل, في سبيل البحث عن لقمة العيش ومصادر الرزق خلال حقبة السبعينيات والثمانينيات الميلادية, انبثقت من مجتمع قروي طيب بسيط من احدى قرى الجنوب في المملكة, بما فيها من نقاء وصفاء وهدوء الى المدينة , بما فيها من مقومات الحياة العصرية الحديثة وتعقيداتها. ومثل هذه الشخصيات ذات الأدوار الرئيسة الفاعلة في العمل نجدها تتمثل لنا في شخصيات عدة, مثل : شخصية الجد (نشمي) أحد وجهاء القرية وأعيانها ,المؤثرين في مجتمعها وسكانها , ومثل شخصية (طراد) - صاحب تاكسي أجرة- وهو ابن (نشمي) الذي غادر القرية , متوجها لمدينة (جدة) للبحث عن عمل يكسب من ورائه قوت يومه هو وعائلته, وكذلك شخصية بطل الرواية, المدعو (همام) وهو ابن (طراد) وهو أيضا (الراوي) الذي تجري على لسانه جميع أحداث الرواية وتفاصيلها, وغيرها من الشخصيات الرئيسة الأخرى , التي اتخذت مواقعها وأدوارها المناسبة , التي تليق بها من تسلسل الحدث وزمانه ومكانه, وقد أجاد الكاتب رسمها والتعامل معها بشكل متقن.