شارك في صياغة الأنظمة الأربعة العليا للدولة ومراجعتها:

مطلب النفيسة.. رجل القانون الأول في المملكة.

فقدت الأوساط القانونية والسياسية والإدارية في المملكة أحد أعمدتها في أواخر شهر رمضان المبارك، حيث أعلن الديوان الملكي يوم الخميس 27 رمضان الماضي، انتقال معالي الدكتور مطلِب بن عبدالله النفيسة إلى رحمة الله تعالى، منوهاً إلى أن الراحل يعد من رجالات الدولة الذين خدموا دينهم ومليكهم وبلادهم بكل تفانٍ وإخلاص، وتقلد عدة مناصب كان آخرها منصب وزير الدولة عضو مجلس الوزراء. وأدى صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن عبدالرحمن بن عبدالعزيز نائب أمير منطقة الرياض عقب صلاة العصر يوم 28 رمضان الماضي، صلاة الميت على معالي الدكتور مطلب بن عبدالله النفيسة -رحمه الله-، وذلك بجامع الملك خالد في مدينة الرياض. وعقب الصلاة قدم سموه العزاء والمواساة لأسرة الفقيد، سائلاً الله العلي القدير أن يتغمده بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته. وأعربت أسرة النفيسة عن شكرها وتقديرها لسمو نائب أمير منطقة الرياض على تعازيه ومواساته. والدكتور مطلب النفيسة من مواليد محافظة رياض الخبراء بمنطقة القصيم عام 1356هـ (1937م)، وبعد أن بدأ تعليمه في الكتاتيب، التحق بمدرسة رياض الخبراء فور افتتاحها، ثم أكمل تعليمه في معهد إمام الدعوة بالرياض (أحد المعاهد التابعة حالياً لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية)، ثم أكمل تعليمه الثانوي في مدرسة اليمامة بالرياض، قبل أن يبتعث لإكمال دراسته الجامعية فنال شهادة البكالوريوس في القانون من جامعة القاهرة بمصر عام 1382هـ (1962م)، ثم أكمل تعليمه العالي ليحصل على الماجستير ثم الدكتوراه في القانون عامي 1971م و1975م من جامعة هارفارد الأمريكية الشهيرة. أما مسيرته العملية الحافلة فانطلقت فور تخرجه من جامعة القاهرة، حيث عين مستشاراً قانونياً في مجلس الوزراء عام 1382هـ (1962م)، ثم نائباً للمدير العام لمعهد الإدارة العامة، ليبدأ بعدها في مزاولة مهنة المحاماة في مكتبه الخاص بعد أن حصل على ترخيص لفتح مكتب استشارات ومحاماة من الملك فيصل مباشرة أوائل الثمانينات الهجرية. وبعد نيله شهادة الدكتوراه، عين النفيسة عام 1395هـ (1975م) رئيساً لشعبة الخبراء في مجلس الوزراء، التي تحولت رسمياً إلى «هيئة الخبراء» عام 1414هـ (1994م)، وهي المحطة التي قضى فيها جل مسيرته العملية حيث استمر بها حتى عام 1416هـ (1995م)، وعلى مدى عقدين من الزمان شارك في صياغة الأنظمة الأربعة العليا في المملكة وفي مراجعتها، وهي الأنظمة الأساسية للحكم، ونظام مجلس الوزراء، ونظام مجلس الشورى، ونظام المناطق. وفي عام 1416هـ تم تعيينه وزيراً للدولة وعضواً بمجلس الوزراء، ثم أميناً عاماً وعضواً للمجلس الأعلى لشؤون البترول والمعادن من عام 1420هـ (1999م) حتى عام 1436هـ (2015م). وفي 1 ربيع الأول 1444هـ/27 سبتمبر 2022م، صدر أمر ملكي بإعادة تشكيل مجلس الوزراء وتجديد تعيينه وزير دولة وعضواً في مجلس الوزراء، وهو المنصب الذي ظل فيه حتى وفاته، رحمه الله. وشغل الراحل عضوية المجلس الاقتصادي الأعلى، ومجلس الخدمة المدنية، ومجلس الخدمة العسكرية، وكان عضو اللجنة الوزارية لنظام الضمان الصحي التعاوني، واللجنة العليا لإعداد نظام المناطق، واللجنة الوزارية للتنظيم الإداري، واللجنة العليا لإعداد نظام مجلس الشورى، واللجنة العليا لإعداد النظام الأساسي للحكم. وفي المجال الأكاديمي، عمل النفيسة في معهد الإدارة العامة وفي قسم القانون بجامعة الملك سعود، وكانت مؤلفاته تدرس في كلية العلوم الإدارية بجامعة الملك سعود، كما ترك بعض المؤلفات الفريدة ذات الصفة التوثيقية والمنهجية التعليمية، وكانت له بصماته في العديد من القضايا المتعلقة بالحدود مع دول الجوار حيث يعد خبيراً في هذا الشأن، وعمل مشرفاً على مكتب شؤون الحدود بالديوان الملكي. فهم عميق لمقاصد التشريع وقواعد وفلسفة القانون وصفه الأستاذ محمد العجاجي رئيس هيئة الخبراء في لقاء تلفزيوني بأنه (رجل القانون الأول في المملكة، والمرجع الأول في القانون الدستوري)، وقال عنه الدكتور محمد بن عبدالعزيز الجرباء في مقال بصحيفة (الرياض): “لقد عملت مع معالي أستاذي مطلب النفيسة عشر أعوام في هيئة الخبراء بمجلس الوزراء ثم أعوام أخر معه في اللجنة العامة لمجلس الوزراء، لم أرَ فيها مطلب النفيسة منفعلاً أبداً رغم زحمة الأعمال وثقل الملفات التي يحملها، فعمله معنا في هيئة الخبراء لم يكن إلا جزءا من مجموعة الأعمال التي توكل إليه، ثم لا بد أن نقف مع النفس الطويل الذي يتحلى به مطلب في دراسة المعاملات القانونية، كنا في الهيئة العامة للخبراء والمستشارين لا يفصح معاليه عن رأيه حتى يسمع من الجميع آراءهم، وكان -رحمه الله- مدرسة مميزة في بناء شخصية المستشار القانونية، كان الدكتور مطلب يحترم الآراء المختلفة، ويؤمن بأن الاختلاف لا يعني الخلاف، بل هو وسيلة للوصول إلى القرار الأمثل. كان يجيد فن الإقناع، لا من باب الجدل، ولكن بالحجة والمنطق، وبأسلوبه الهادئ العميق، الذي يجعلك تنصت له بإعجاب واحترام. وترى فيه أهل الاختصاص شواطئ علمه الضخمة المتلاطمة، والتي لا تسمع أنت منها إلا صوتها الهادي على طرف الشاطئ الجميل، ما أجمل وأروع العمل والتعامل معك أباخالد، لأنه يخاطبك لا من منطلق أنه الرئيس وأنت المرؤوس، بل أوجد -رحمه الله- مساحة واسعة لإبداء الرأي لقناعته الراسخة في كيفية صنع المستشار أولاً لأنه الركيزة التي ستعتمد عليها الدراسات والآراء القانونية فيما بعد، ولذلك عرف في ذلك الوقت تميز المستشارين الذين تخرجوا من مدرسة مطلب القانونية بسعة نظرهم وقدرتهم على تحمل الآراء المخالفة ومناقشتها بصدر رحب، وصعوبة التأثير عليهم، في العموم الأغلب، بل إنه صنع مستشارين لا مجرد كتبه أو سكرتارية، ولك أخي القارئ أن تقارن بمن حولك لترى الفرق بين مدرسة مطلب النفيسة القانونية وغيرها، فستجد البون واسعاً والمدى بعيداً لا يدرك! وفي اللجنة العامة لمجلس الوزراء، كما أشرت عملت مع معاليه أعوام كان رجل دولة من الطراز الأول، كان يقول لي -رحمه الله- ونحن في إعداد معاملات اللجنة العامة لمجلس الوزراء: يا محمد اقرأ المعاملات كاملة مثلي فإننا بحاجة أن نقرأ أنت وأنا كل ما في المعاملات! هذا جانب على إحاطته بجميع التفاصيل القانونية، فمعاليه يدرك أهمية ووزن رأيه القانوني فكان لا يبدي رأيه الا متثبتاً واثقاً محتاطاً، وهذا النهج هو ما يجب أن يكون عليه أي مستشار مؤتمن في رأيه أمام وطنه وولاة أمره”. أما الفريق عبدالإله بن عثمان الصالح فكتب عنه في مقال نشرته صحيفة (عكاظ) حمل عنوان (حصافة تمشي على قدمين): “كان معالي الدكتور مطلب النفيسة، رحمه الله وغفر له، ينطلق في العمل القانوني والاستشاري والتشريعي والتعليمي من فهم عميق لمقاصد التشريع وقواعد وفلسفة القانون وروحه والتنظيم ودور الدولة وشأن الهويات والمصالح المتدافعة، فإذا به وهو يعمل على صياغة الأنظمة يطل على الغابة من علو مدركاً الآفاق، ولا يفوته الخوض في الغابة شجرة شجرة وغصناً غصناً يتلمس شوكها ويبرز ثمارها... هذا كان شعوري عندما أسمعه يتحدث في موضوع أراه معقداً ومشتتاً، ثم يسحرني بلملمة الموضوع من أطرافه بدون تكلف أو تصنع أو حتى مرجع، ضارباً الأمثلة تلو الأمثلة من تشريعات البلاد القديمة والحديثة وما بينها من تطور وتطوير ونضج. يقول إن الأنظمة والتشريعات بل والعقود تؤدي دورها السامي إذا وزعت المخاطر والمسؤوليات على الأطراف كل بحسبه، والمكاسب على الجميع. ولا يمكن صياغتها إلا بعد فهم عميق سلس لمطلقاتها وأهدافها وديناميكية التدافع حواليها وفي مجالاتها وأرضياتها وخلفياتها السياسية والاجتماعية والمالية بل والإنسانية والشخصية. ذلك قبل وأثناء وبعد التشريع وصياغة الأنظمة وإصدارها”. تقدير كبير من القيادة الرشيدة وكتب عنه د. سعود العماري في صحيفة (الرياض): “كان -رحمه الله- أحد العقول القانونية النادرة، وقدوة حسنة للجيل القانوني في المملكة، بل يعد من أعلام القانون السعوديين. ‏كما كان من المؤسسين لجمعية خريجي هارفارد في المملكة في منتصف الثمانينات، وأحد مؤسسي مركز الدراسات الإسلامية في كلية الحقوق بجامعة هارفارد، والذي أنشئ بتبرع سخي من الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- بعد جهود بذلها مجموعة من أبناء الوطن المخلصين بقيادة الأمير نواف بن عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- وفريق من الخريجين منهم الأمير محمد بن نواف بن عبدالعزيز آل سعود، والأمير أحمد بن خالد بن عبدالله آل سعود، والفقيد -يرحمه الله- ومعالي الدكتور مساعد العيبان. ‏فقد كان لهذا المركز دور بارز في إبراز قيم الشريعة الإسلامية والدفاع عنها، خاصة بعد تداعيات أحداث 11 سبتمبر، حيث لعب البروفيسور فرانك فوجل دوراً كبيراً في هذا المجال، متبنياً الدفاع عن مبادئ الشريعة والإسلام. ‏لقد كان معالي الدكتور مطلب النفيسة مدرسة في القانون والخلق والتواضع، لم يبخل يوماً بعلمه أو نصيحته، وكان مرشداً وملهماً لكثيرين، وأنا أحد الذين تشرفوا بنيل توجيهاته ونصائحه السديدة. كان -رحمه الله- داعماً لي ولغيري من زملائي، يفتح لنا الأبواب، ويقدم لنا من خبرته الواسعة دون تردد أو تفضل، فكان مثلاً يُحتذى به في الخلق الرفيع والعمل الدؤوب.‏ عرفه الجميع جندياً مجهولاً يعمل في صمت، بعيداً عن الأضواء، لكنه حقق إنجازات عظيمة أثرت في بنية النظام والتشريع في المملكة. وكان موضع تقدير كبير من قيادتنا الرشيدة، وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان آل سعود -حفظهما الله- حيث لم يوافقا أبداً على ابتعاده عن مجلس الوزراء رغم ظروفه الصحية، وظل في منصبه حتى وافاه الأجل المحتوم”. مهندس التشريع وبوصلة الاتزان أما الأستاذ فراس إبراهيم طرابلسي فكتب عنه في صحيفة (عكاظ): “في عام 1415هـ (1995م)، جاء التكريم الأكبر بتعيينه وزيراً للدولة وعضواً في مجلس الوزراء، المنبر الأرفع لصناعة القرار، فكان فيه صوت العقل القانوني المتزن، وضمير الدولة حين تشتد الموازنات، وحكيمها حين تختلط الرؤى. لم يكن صوته عالياً، لكن حضوره كان وازناً، يزن القضايا بميزان النص القانوني، ويرى في النص روح الدولة لا حروفها فقط. على مدى عقود، ظلّ الدكتور مطلب حاضراً في مشهد القرار، لا بصفته التنفيذية فقط، بل بقيمته الفكرية والإنسانية. كان من رجالات الدولة الذين آمنوا بأن القانون ليس نصاً جامداً، بل روحٌ تُدار بعدل، وتُفعّل بحكمة، وتُحمى بإرادة. وفي كل موقع شغله، ترك بصمة راسخة، وسيرة نقيّة، وإرثاً لا يُنسى. برحيله، لا تفقد المملكة رجلاً بارزاً فحسب، بل تُطوى صفحة من صفحات التوازن الرشيد بين المعرفة والقرار. لقد كان بوصلةً في زمن التحولات، ورمزاً للاتزان في زمن التوترات، وركناً من أركان المدرسة السعودية في التشريع والإدارة”.