قناديـلُ الأرض

ثمَّـةُ أشياء نعترفُ بتقصيرنا عندما نريد الكتابة عنها ، أو التعبير فيما نكنَّه نحوها؛ لما لها من مكانةٍ عظيمة ، وأثر إيماني راسخ . ولستُ أدري أي - باب - سيسعُ أقلامنا وهي تهم بالدخول لعالمها الفاضل وأثرها العابق . وأي - نافذة- ستستوعبها أفكارنا حينما تُطِّلُ من خلالها على تاريخها العريق والممتد قروناً من الروحانية والسكينة . المساجدُ قناديلُ الأرض ، ومجاميعُ الفرح، ومنطقةُ الدفء والأمان ، والسعادة والإطمئنان لأهل الحي ، وجماعة المسجد . فيه يجتمعون على قلب رجل واحد ، ولغاية واحدة ، متراصين باعتدال ، ومستوين بامتثال {كأنهم بنيان مرصوص} وحينما نبحثُ عن المعنى الأشمل ، والمقصد الأسمى ، والمغزا الحقيقي لكلمة « مساجد» فلن نجد أفضل ولا أدق من قوله - سبحانه وتعالى- في سورة النور : {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال} إنَّ الترابطَ والتواشج الذي يحققه المسجد ، والعلاقات والمصالح الإيمانية التي يقيمها بين مرتاديه ؛ كفيلٌ ببناء جسور من المودة والألفة والتعاضد والتآخي ؛ مما يحقق مقصاد الشرع وأهدافه . وهذا ماجسَّده محمدٌ - عليه الصلاةُ والسلام- ورسمَهُ كفكرة حيَّة ، ومشهد مباشر . يُعرض ويبث تطبيقياً أمام كل من وقع أسيراً في أحد سواري مسجده ، فيستقر الإسلامُ في قلبه ، وتشرئب نفسه لهذا الدين العظيم ؛ وهو يرى هذه الدقَّة في الحضور والإصطفاف ، والتوافق والتماثل في الأداء ، وتقديس المكان والزمان ، والالتزام التام بالزَّي واللباس . ثمامةُ بن أثال - أمير - اليمامة أحد أولئك الأسرى الذين أدهشتهم تلك المعاني العميقة التي يعيشها أهل المسجد ، وينهلون من معينها العذب الذي يفيض خشية وإنابة . فما وقعَ أمام عينه من انتظام بشري وانسجام روحي ، وتوافد ومسارعة لنيل السبق خلال فترة أسره ؛ سرَّع بدخوله للإسلام وإعلانه التوبة . هكذا هي قيمة المسجد ، وتلك هي رسالته التي تنطلق من مبدأ حفظ النفس ، وتعزيز ثقافة طهارة البدن والروح ، ونشر العلم والاهتمام بالتربية ، والقيام على التعاون بين أهله وجماعته كأسرة واحدة ؛ تعزز دور المسؤولية الاجتماعية وتنميها وتحافظ عليها ، وترتقي بها ، وتصدرها للعالم كافة مبتعدين عن كل ما يخل - بتنزيه - المسجد: من رفع الصوت ، والمشاحنات ، وإنشاد الضالة، والغوغاء، والضجيج ، وعدم المحافظة على أخذ الزينة عند قصده ؛ لئلا تفقد مساجدنا جوهرها وهيبتها . كرت العائلة… والمعايدة الأولى كرت العائلة بستانكَ الذي تَـرَعْرَعْتَ وسط أزهاره ، وشبَّيْتَ بين ثماره ، فعلى أرضه غُرِسَ اسمك ، وسَقَـتْهُ بماء الأخوة سماؤك . تمرُّ بك الأعوام والفصول ، وتصادِفُكَ أسماءٌ تطول تتساقطُ كأوراقِ الخريف ، وتنقشعُ كسحابة صيف ، ولنْ يبقى معك إلاَّ ( أسماء ) لاتعرف الذبول ؛ احتضنها ذلك البستان المترعُ بأزاهيرِ التِّحْنان ، والعابقُ بأطايبِ الريحان . حياتك بقربهم ستُمطرُ فرحاً ، وتهطلُ سعادةً وإن طالت بك ( المُدَّة ) ستبقى لك ( المودة) في (ظِلاَلِ هذا البستان ) عِشْ كل سعادتك، بين أحبتك الذين كتبتْ الأقدار بأن يكونوا من أهل الدار . فهذا أخٌ يَسْندُك ، وتلك أختٌ تُسعدُك وذاك أبٌ يهتم بك ، ووالدةٌ جعلتْ ابتهالاتها لك وأولئك أبناءٌ يُباهون فيك ، وتلك زوجٌ تأويك وتأكَّدْ يقيناً أنهم الأقرب من بين كل الناس. فلا تصرف معايدتك إلى أحد قبلهم ، فهم المأوى والمسكن والسكينة . أطلقْ لهم عنان ابتسامتك وانثر لهم الفرح في يوم العيد السعيد ، ولتكن لهم المعايدة الأولى.